التخاطب بالعادة، فلم يكن الوزير الكيس والرئيس الجهبذ يجريان من الاستقامة على قانون، ولا يطردان من الصواب على أسلوب، إلا بالمحافظة على ما رسم من القواعد، والمطابقة لما ثبت من العوائد، وكان ذووالنبل من هذه الطبقة وأولوالحذق من أرباب هذه المهن السياسية يتعجبون من صحة اختياره لما رسم، وجودة تمييزه لما قصد، ويرون المفسدة في الخروج عنها ضربة لازب، وأن الاستمرار على مراسمها آكد واجب، فيتحرونها بالالتزام كما تتحرى السنن، ويتوخونها بالإقامة كما تتوخى الفرائض، وسواء تبادر لهم معناها ففهموه، أوخفي عليهم وجه رسمها فجهلوه، حدثني شيخنا القاضي أبوالعباس أحمد بن أبي القاسم الحسني أن الرئيس (١) أبا عبد الله ابن زمرك دخل على الشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب يستأذنه في جملة مسائل مما يتوقف عادة على إذن الوزير، وكان معظمها فيما يرجع إلى مصلحة الرئيس أبي عبد الله ابن زمرك، قال الشريف: فأمضاها كلها له، ما عدا واحدة منها تضمنت نقض عادة مستمرة، فقال ذوالوزارتين ابن الخطيب: لا، واله يا رئيس أبا عبد الله لا آذن في هذا، لأنا ما استقمنا في هذه الدار إلا بحفظ العوائد.
ثم قال صاحب الروض: فلما تأذن الله تعالى للدولة بالاضطراب، واستحكم الوهن بتمكن الأسباب، عدل عن تلك القواعد الراسخة، واستخف بتلك القوانين الثابتة، فنشأ من المفاسد ما أعوز رفعه، وتعدد وتره وشفعه، واستحكم ضرره حتى لم يمكن دفعه، وتعذر فيه الدواء الذي يرجى نفعه، وكان قد صحبه من الجد ما نسى آماله، وأنجح بإذن الله تعالى أقواله وأعماله، فكان يجري الأمر على رسم من السياسة واضح، ونظر من الآراء السديدة راجح، ثم يحفه من الجد سياج لا يفارقه إلى تمام الغاية المطلوبة من حصوله، وتمكن مقتضى الإرادة السلطانية من فروعه وأصوله؛ انتهى كلام ابن عاصم.