للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عالم ساد بالعلم ورأس، واقتبس به من الحظوة ما اقتبس، وشهر بالأندلس حتى سار إلى المشرق ذكره، واستطار شرر الذكاء فكره، وكانت له عناية بالعلم وثقة، ورواية له متّسقة، وأمّا الأدب فهو - كان - حجّته، وبه غمرت الأفهام لجته، مع صيانة وورع، وديانة ورد ماءها فكرع، وله التأليف المشهور الذي سمّاه ب " العقد "، وحماه عن عثرات النقد، لأنّه أبرزه مثقّف القناة، مرهف الشّباة، تقصر عنه ثواقب الألباب، وتبصر السحر منه في كل باب، وله شعر انتهى منتهاه، وتجاوز سماك الإحسان وسماه.

أخبرني ابن حزم أنّه مرّ بقصر من قصور قرطبة لبعض الرؤساء فسمع منه غناء أذهب لبّه، وألهب قلبه، فبينما هو واقف تحت القصر إذ رشّ بماء من أعاليه، فاستدعى رقعة، وكتب إلى صاحب القصر بهذه القطعة:

يا من يضنّ بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضنّ في أحد

لو أنّ أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد

فلا تضنّ على سمعي ومنّ به ... صوتاً يجول مجال الروح في الجسد

أمّا النّبيذ فإنّي لست أشربه ... ولا أجيئك إلاّ كسرتي بيدي وعزم فتى كان يتألّفه، وخامره كلفه، على الرحيل في غده، فأذهبت عزمته قوى جلده، فلمّا أصبح عاقته السماء بالأنواء، وساقته مكرهاً إلى الثّواء، فاستراح أبو عمر من كمده، وانفسح له من التواصل ضائق أمده، فكتب إلى المذكور، العازم على البكور:

هلاّ ابتكرت لبين أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر

ما زلت أبكي حذار البين ملتهباً ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر

يا برده من حيا مزنٍ على كبدٍ ... نيرانها بغليل الشوق تستعر

آليت أن لا أرى شمساً ولا قمراً ... حتى أراك فأنت الشمس والقمر

<<  <  ج: ص:  >  >>