مفرقي لقدمي، وأنست بي كعادتها، وبقيت كذلك مدّة، وأخبار سيدي أبي يعزى ترد عليّ، وكراماته يتداولها الناس وتنقل إليّ، فملأ قلبي حبّه، فقصدته مع جماعة الفقراء، فلمّا وصلنا إليه أقبل على الجماعة دوني، وإذا حضر الطعام منعني من الأكل معهم، وبقيت كذلك ثلاثة أيام، فأجهدني الجوع، وتحيرت من خواطر ترد عليّ، ثم قلت في نفسي: إذا قام الشيخ من مكانه أمرغ وجهي في المكان، فقام، ومرغت وجهي فقمت وأنا لا أبصر شيئاً، وبقيت طول ليلتي باكياً، فلمّا أصبح دعاني وقرّبني، فقلت له: يا سيدي، قد عميت ولا أبصر شيئاً، فمسح بيده على عيني، فعاد بصري، ثم مسح على صدري، فزالت عني تلك الخواطر، وفقدت ألم الجوع، وشاهدت في الوقت عجائب من بركاته، ثم استأذنته في الانصراف بنية أداء الفريضة، فأذن لي وقال: ستلقى في طريقك الأسد فلا يرعك فإن غلب خوفه عليك فقل له: بحرمة يدنور (١) إلا انصرفت عني، فكان الأمر كما قال. فتوجّه الشيخ أبو مدين للشرق وأنوار الولاية عليه ظاهرة، فأخذ عن العلماء واستفاد من الزهاد والأولياء، وتعرّف في عرفة بالشيخ سيدي عبد القادر الكيلاني، فقرأ عليه في الحرم الشريف كثيراً من الحديث، وألبسه خرقة الصوفية، وأودعه كثيراً من أسراره، وحلاه بملابس أنواره، فكان أبو مدين يفتخر بصحبته، ويعدّه أفضل مشايخه الأكابر.
وعن بعض الأولياء قال: رأيت في النوم قائلاً يقول: قل لأبي مدين: بثّ العلم ولا تبالِ، ترتع غداً مع العوالي، فإنّك في مقام آدم أبي الذراري، فقصصتها عليه فقال لي: عزمت على الخروج للجبال والفيافي حتى أبعد عن العمران، ورؤياك هذه تعدل بي عن هاذ العزم، وتأمرني بالجلوس، فقولك ترتع غداً مع العوالي إشارة لحديث حلق الذكر مراتع أهل الجنّة، والعوالي: أصحاب عليين، ومعنى قوله أبي الذراري أن آدم أعطي قوّة على النكاح