نستبعد أن يكون الوثائقيون في صقلية قد انتفعوا بهذا الكتاب وباصطلاحاته وأصوله، كما لا نستبعد أيضاً أن يكون فيهم من ألف في الوثائق كتباً تهدي المبتدئين إلى ما يريدون معرفته من هذا الفن.
ولكن اللغة تقلبت على أسنة أقلامهم حتى كادت تكون عامية، ومرجعنا في تصور هذه الناحية كتاب تثقيف اللسان (١) .
[٦]
- الزهد والتصوف
منذ أن توجه المسلمون لفتح صقلية ظهر فيهم ميل إلى الجهاد مصحوب بميل آخر إلى المرابطة والعبادة. ومن اجل ذلك بني رباط على الساحل الأفريقي التجأ إليه الزهاد والصالحون ليطمئنوا إلى الهدوء في تحنفهم، وليطمئنوا على وطنهم من الغارات الخارجية. وظل هؤلاء يحملون سلاحين أحدهما من الحديد والثاني من الدعوات حتى جاء المهدي فنوع الأول من أيديهم وبقي الثاني يدافعون به عن فرديتهم ويلوحون بع فوق رءوس أعدائهم.
وفي وقت قصير أصبحت صقلية كلها رباطاً يستدعي اليقظة في الهجوم والدفاع وعاد النوعان من الميل يظهران في نفوس الناس، ففريق من الصالحين آثر الحرب والجندية، وفريق قنع بالانفراد والانقطاع عن الدنيا. وبين هذين كان فريق ثالث وجده ابن حوقل في طبقات المعلمين إذ لجأوا إلى التعليم فراراً من الجندية.
وإلى الفريق المتقشف المتقلل من متاع الدنيا تنتمي تلك الطبقة من القضاة الأولين الذين دخلوا صقلية، مثل ابن أبي محرز وعمرو بن ميمون، ومنه أيضاُ بعض زهاد صقليين في أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، أوضحهم شخصية