للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صقلية المحدودة تسع أطماعه المترامية، وخرج وهو يقدر أن يعود، ثم أرادت له الأقدار شيئاً آخر فلم يعد يستطيع أن يرجع إلى صقلية ليعيش مادحاً لقوم أعلن عليهم سخطه، ورآهم سبب المصيبة التي حلت بوطنه، ورضى بالغربة ليبكى تقصيره في حق الوطن، ولم تطمئن به حاله حيث وقع، لولا أملٌ كان يراوده بأنه سيكون شاعراً كبيراً في بلاط أمير كبير.

[٤]

- الآثار التي تركتها صقلية في نفسه وشعره

كثرت المؤثرات في حياة ابن حمديس وفي شعره بعد صقلية - زادت تجاربه في الحياة، واتسعت ثقافته، وأخذت وقدة الشباب تخمد في كيانه، واحتضنته بيئة أو بيئات جديدة تغاير صقلية في مؤثراتها ومظاهرها، فاصبح في شعره مجال للتجربة التي تهيئها السن، ومجال آخر للثقافة التي يزوده بهها الدرس. وبعد أن كانت صقلية تريد لشعره أن يسلم من وصف الناقة والرحلة للمدوح، ووصف الأطلال عادت البيئة الإفريقية فأمدته بهذا اللون، وأملت عليه الحروب المتتالية بين إفريقية وصقلية أن يفسح للدين والجهاد في سبيل الإسلام - بدلا من الجهاد في سبيل الوطن - موضعاً في شعره.

ولكن هذه الحياة بما فيها من ألوان لم تستطع أن تنسيه صقلية إذ لم يكن لها قبل بمحو الشباب وذكرياته، بل لعل صقلية ظلت أقوى من كل مؤثر جديد إذا كان صدق الشعور دليلنا على قيمة كل مؤثر، جديداً كان أو قديماً. وما كان ابن حمديس يتحدث عن شعوره ببساطة صادقة مزودة بشعلة عاطفية، إلا حين كان يذكر صقلية أو شيئاً يتعلق بها، وما كان يصحو إلى حقيقة وجوده المنطوي على مأساة، إلا حين كان يبلغه كتاب من قريب أو صديق أو

<<  <   >  >>