للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالذنب الذي ارتكبه، ومن ذلك الذنب نجمت طائفة كبيرة من الحزن الذي ظل يصبغ حياته حتى لقي الأجل، وقد كنا نتساءل خرج من صقلية فدعنا نسأل لم لم غليها، ففي الجواب على هذا السؤال تفسير لفكرة الذنب. لقد قال لنا إنه يعيش في ظل مثل معنية ولا يطيق أن يرجع إلى بلد فقد حريته:

ولو أن أرضي حرةٌ ... بعزم يعدٌ السير ضريه لازب

ولكن أرضي كيف لي بفكاكها ... من الأسر في أيدي العلوج الغواصب وحدثنا أنه يطلب العلا وتكلم عن ذلك كلاماً مبهماً. أما في الحقيقة فإنه لم يرجع لأنه كان يتمثل وطنه عاتباً عليه، وكان ذا حس مرهف بمرارة ذلك العتاب، فآثر الغربة ليغسل بدموعه ما كان يعده ذنباً. لم تكن عودته مستحيلة حتى أيام الحكم النورماني، وكان أهله يكاتبونه لعله يعود، فكان يقول لهم: كيف أعود إليكم وأمري بيد القضاء وبأي عين أراكم شيوخاً بعد أن عرفتكم شباباً، وتروني شيخاً بعد أن عرفتموني غلاماً، ولم تغربت؟ ألا تذكرون أنني أطلب العلا (١) :

وكيف أرى لي قْصدَ وجهي إليكمُ ... إذا كان في كف القضاء زمامي

وما هي إلا غربة مستعمرةٌ ... أرى الشيخ فيها بعد سن غلام

كأن قذالي بالقتير معوضٌ ... قبيلة سام من قبيلة حام

وما شيبَ الإنسان مثلُ تغربُ ... يمرّ عليه اليوم منه كعام

وهل رحتُ إلا طالباً بالنوى علاً ... كأني منها للنجوم مسام لم يكن ابن حمديس كاذباً في حزنه على وطنه وما صار إليه قومه، ولكنه كان مغلوباً بطمع واحد صرف قوته في وجهة أخرى - ذهب يطلب العلا - ولا أستطيع أن أفهم من هذه العلا إلا أنه ذهب يطلب الشهرة بالشعر. كان ذلك هو حلمه منذ أن أصبحت تطيعه القوافي - وإن لم يصرح لنا بهذا - ولم تكن


(١) رقم ٢٨٢.

<<  <   >  >>