في قصر الفترة التي عاشها الشعر بصقلية وفي طبيعة الأجناس التي أنشأته، وفي ضعف الحدود الوطنية لقطر هو نقطة التقاء المهاجرين من جميع الجهات، وفي روح الاستسلام التي واجه الشعراء بها ضياع الوطن، وفي مجيء الفتح النورماني الذي أفرغ الجزيرة من علمائها وشعرائها، على أعقاب فتنة وانقسام داخلي - في كل هذه الحقائق يمكننا أن نتلمس بسهولة جوانب الضعف لا جوانب القوة في الشعر الصقلي.
ومما زاد في التقليل من أصالة الشعر الصقلي وصور التجديد فيه، اعتماده المحاكاة في جميع خطواته، وخاصة محاكاة المشارقة، والمدرسة الإفريقية في القيروان. أما تأثره بالأندلس فكان اقل من تأثره بإفريقية والمشرق. وقد غذاه المشرق بالدراسات الإسلامية في الفقه واللغة، فعمق روح المحافظة فيه، فامتلأ الشعر بالروح المدرسية القائمة على وضع النصائح النظرية والإرشادات الخلقية، وأصبح الشاعر يملأ شعره باستعارات النحو والفقه، ويكثر من الألغاز ومن التلاعب اللفظي بالأسماء. والأمثلة على هذا كثيرة، وأنا اضرب عن إيرادها عامداً، وقد تغلغل هذا الأثر في شعر شاعر وافر الحظ من الأصالة كابن حمديس، وصبغ بعض شعره بصبغة تعليمية ثقيلة. بل إن شدة الاتصال بإفريقية والمشرق حرمت صقلية من التطلع إلى الأندلس. صحيح إن الأندلس استمدت كثيراً من الشرق ولكنها استطاعت أن تتميز بالموشحات والأزجال، أما صقلية فما نعثر فيها على شيء من هذين الفنين. وقد استقلت الأندلس من الناحية الغنائية، وعجزت عن ذلك صقلية فكل أغانيها واردة من المشرق، وللغناء أثره البعيد في الشعر، وعدم استقلال صقلية بأغانيها مكن لها في المحاكاة، ووسع لها