أحب أن أترك للتاريخ كثيراً من الحقائق التي تتصل بالنورمان أنفسهم - بأصلهم وبسبب مجيئهم إلى إيطاليا الجنوبية وبجهودهم فيها. وأدع لهذا التاريخ كثيراً من القول في بنائهم المملكة الصقلية وأنظمتهم في الإدارة والتشريع، والشئون المالية، وعلاقاتهم السياسية والدينية بالبابا وبالملوك والأباطرة. وأتجنب الحديث عن دورهم في الحروب الصليبية، وعن استيلاء أساطيلهم على الساحل الأفريقي، فإن الأخذ بكل هذه الحقائق يقصيني عن الهدف الذي أسعى إليه وهو الحديث عن حياة الشعر العربي في عصر النورمان، وفي سبيل هذه الغاية أراني سأقصر الحديث أولا على الفتح نفسه، لا لأن سيره كان ذا أثر في توزيع الأجناس، وفي نوع الحياة العقلية، ولكن لأنه يدل على الطريقة التي استقبله بها المسلمون، والنفسية التي دخلوا بها تحت لوائه. وهذا بدوره هو فاتحة القول فيمن بقي بصقلية من الجماعة الإسلامية، وفي تأثرها بالحياة الجديدة وأثرها فيها، ولجلاء هذه الأمور لابد من استعانة بوصف الحياة الاجتماعية والعقلية لتلك الجماعة وحدها إذ ليس من الطبيعي أن أصور كل جوانب الحياة - عقلية كانت أو اجتماعية - بين الجماعات كلها، وإنما أحاول أن أرسم الجو الذي عاش فيه الشعر.
وتعود بنا هذه البداية إلى النهاية التي بلغتها صقلية على أيدي قواد يتقاتلون فيما بينهم، على أسباب تختلف في تفاهتها، ولكن يوحد بينها الجشع وجب السيطرة. وفي إحدى المعارك هزم ابن الثمنة فخف إلى النورمان يستعين بهم ويعدهم ويمنيهم ويهون عليهم أمر القادة والجند (١) . وكان فتح صقلية حلماً من أحلامهم يزينه غني الجزيرة وخصبها، ويؤيده خوفهم من مجاورة المسلمين لهم