طائفاً من عالم الماضي، ولكنه لم يصبح في حياته فلسفة ولا كان نتاجاً لها، حتى الموت ظل حيث كان - ظل تلك القوة الجبارة التي تتخطف العصم وتردى عقاب الجو - كما رآه أبو ذؤيب ذات مرة، أما هو فلم يسأل نفسه عن التناقضات التي طرحته الحياة فيها، ولم تتعقد في نفسه مشكلة الوجود أو مشكلة الفناء، ولم يصرخ ثائراً لأنه غريب، بل لم يستفد من هذه الغربة في المكان فلسفة الغربة الإنسانية عامة، - كان يشعر دائماً بالعجز إزاء كل مشكلة فيتركها لنفسها، وكان ليطمئن نفسه بعجز الطبيب الذي لا يرد العوداي عن نفسه، ويعجز الفيلسوف " عن طرق ليست لأهل العقول منسلكة "، وبعجز القائد القوي الذي لا يغني عنه سلاحه. وظل ينحدر في درجات السلم لا ليسأل نفسه إلى أين ولكن ليعد تلك الدرجات، أربعون، خمسون، خمس وخمسون، ستون، ست وستون، كان مشفقاً من أن يبلغ النهاية ولما بلغها كانت صقلية لا تزال على شفتيه، والغربة لا تزال محور حديثه، وكانت الشيخوخة قد حالت بينه وبين رؤية مشاهد الوجود بعينيه، لير - بعين المخيلة - صقلية وشبابه فيها.