كانت لا تزال كامنة في نفسيتها - كانت لا تزال حقاً لأن الأساطير القديمة عن سكلا وخار بديس وصلت إلى المسلمين ورددوها تلميحاً لا إسهاباً -. فلما أراد بعض الثائرين على هذا الاتجاه المادي - أو بعض المتصوفة - أن يجذبوا إليهم المريدين أخفقوا في الوصول إلى غاياتهم على أرض لا تعرف هذا الاتجاه الواضح إلى العالم العلوي. فلا غرابة إذا كان الأدب في الأيام الإسلامية كفئاً بتلك الحاجات اليومية العابرة، لا تعبيراً عن شيء من المثالية في الحياة.
وهذه الطبيعة الأرضية - وهي أول عنصر في شخصية الجزيرة - كان لها أثرها في توجيه الحياة الإسلامية بها، وكان لها أثران بارزان في الشعر، أما أولا فقد أقرت أصولا خلقية عامة يقبلها الناس في حياتهم فأصبح في الشعر صدى لهذه المقاييس العرفية أو الدينية - أي أنه أصبح يحث على هذه الأخلاق أو تلك، فاستقام في هذا مع دروس أهل الوعظ ومع الطابع العام للدراسات الفقهية في المساجد. وأما ثانياً فقد نشأ من الاتجاه إلى الحياة العملية اتجاهات دنيوية تحل بمقاييسها الجديدة محل الدين، ولست أتحدث عن جميع هذه الاتجاهات هنا وإنما يعيني منها ما اتصل بالشعر، ففي أواخر العصر الإسلامي كان الشعور بالوطن قد أخذ يقوي على كل شعور آخر، وأصبحت فكرة الوطنية هي الدين الجديد الذي يربط بين الصقليين أنفسهم، وهذا ما لمسناه في شعر ابن حمديس من قبل. فإن ابن حمديس في بكائه على صقلية كان يحس إحساساً وطنياً لا دينياً، ولكنه تغير بعد ذلك فرضت عليه الحياة أن يتحدث من بعد عن انتصارات المسلمين على غيرهم، وليس معنى ذلك أن الشعور الديني عند ابن حمديس فقد بتاتاً في أشعاره الصقلية، ولكنه حل في المقام الثاني، وأصبح ابن حمديس يقول لبني وطنه حين يحرهم على الثبات " موتوا من أجل الوطن فإن بلاد الناس ليست بلادكم ". وهذه صرخة عجيبة في القرون الوسطى لا نسمع مثلها إلا تمنيات المؤرخ فلقندو بأن يتحد مسلمو صقلية ومسيحيوها ليحموا وطنهم من الأعداء. والواقع أن الدين نفسه لم يكن يسمح لهذا الشعور الوطني بالتفوق