للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

به، كأنما كانت تسيرهم المصلحة العاجلة وحدها دون بعد في النظر، وسيظل هذا هو الداء العضال الذي تشكوه صقلية، بحكم موقعها، وسيكون هذا الداء سبباً في القضاء على السيادة الإسلامية في أرجائها.

ونستطيع أن نتصور التبعية المطلقة التي كانت تدين بها صقلية لأفريقية أيام الأغالبة، إذا عرفنا أن المهدي، حال تسليمه المقاليد، أرسل إليها بوال وقاض من قبله، ولا نعرف أنه حاول عندئذ أن يرى رأى صقلية في المسألة، ولا أنه حسب لامتناعها عليه حساباً، فأعد لإخضاعها أسطولاً إن هي حاولت أن تقف موقف المعاند الجريء.

ولم يثر الصقليون على أول ولاة المهدي، إلا حين أساء السيرة فيهم، واعتذروا إلى المهدي مما فعلوه فقبل عذرهم، وولى عليهم والياً آخر، فلما آنسوا منه ليناً وضعفاً، عزلوه وولوا عليهم أحمد بن قرهب (١) . ومن الطريف أن أحمد هذا كان كارهاً تولى المر فهرب من الصقليين وتوارى عنهم في غار (٢) . غير أن إلحاح وجوه البلد عليه وتعهدهم له بأن لا يخذلوه جعله يقبل. والحقائق التي نستطيع جمعها عن هذا الوالي الجديد تصوره رجلا بعيد الطموح، ولكن يشك في بعد نظره - كان يفهم طبيعة الصقليين فهماً تاماً، ويعرف أن العنصر الصقلي قد قوي إلى حد لا يستطاع إخضاعه أو قهره بالعسكر الصقلي نفسه، إذ كان من السهل أن يتفاهم الشعب والجيش على خصومه الوالي الأجنبي عنهم. وكان يعلم أن أهل بلرم خاذلوه دون اكتراث كثير ليمان أو عهود، ومع ذلك فقد قام بعدة محاولات فيها ما يناقص هذا الفهم فأسرع بنفسه إلى الهاوية ووقع فريسة لتقلب الصقليين.

حاول ابن قرهب أن يغير العاصمة فأرسل ابنه إلى طبرمين ليفتحها ويجعلها حصناً يأوى إليه هو وأبناؤه وعبيده وأمواله، ونسى أن طبرمين امتنعت على كل قائد من قبله، وغفل كذلك عن أن طبرمين في منطقة مسيحية لا تتجاوب


(١) ابن الأثير ٨/٢٣ والمكتبة: ٢٥١.
(٢) ابن عذاري في المكتبة:٣٦٤.

<<  <   >  >>