في المدن الصقلية على التجارة يدعو في الغالب إلى العناية بظواهر الأشياء أكثر من الاحتفال بالتربية النفسية، ولا شك في ان كثرة المساجد، حتى يكون منها في قرية قريبة من بلرم مائتا مسجد، لا تدل دائما على تدين. وفي مثل هذه البيئة ما يسمى مراعاة العواطف وخاصة في المآتم والأفراح، وهذا الملق الظاهري يفسر السجادات، والمصلحة الفردية تفسير للتطوع بشهادة الزور، والفقر من وراء كل تلك الرذائل، أي أن الاختلال في نظم الحياة الاقتصادية هو العامل الأول في تلك النقائض ولست أستطيع أن أتصور إلى أي درجة كانت كثرة الأجناس من ناحية وشعور الأقليات بالانكماش على نفسها من ناحية اخرى، يمد ان الحياة الاجتماعية بتفكك في الروابط، واتضاع في القيم، وقصر ومحدودية في النظرة إلى النفع والضرر، وخاصة أن المادة الخصام على أصول العصبية وغيرها كثيرة وفيرة.
وقد نلاحظ أن العصبية الإقليمية أوحت لابن حوقل بشيء كثير من الشنآن للمجتمع الصقلي، وباعدت بينه وبينه، وهي عصبية غير مستغربة حين نعرف أنها كانت تقوم بين بلدان صقلية نفسها، وهي مشاعر ورثتها منذ العصر البيزنطي، وقد رأينا كيف اغتاظ السرقوسيون لما رأوا بلرم في أول العهد الإسلامي قد أصبحت تتحكم في مصايرهم بعد أن كانت مدينة لا يأبهون بها، وفي أيام المسلمين كانت جرجنت مركز البرابرة تنافس بلرم عاصمة الأرستقراطية العربية. بل لا نستبعد أن يكون الانقسام الأخير في صقلية قام على أسباب من بينها تلك العصبية البلدية، أي أن الأقاليم كانت ثائرة على زعامة بلرم وصادف ذلك هوى في نفوس القواد المحليين، فانتهزوا الفرصة لما سنحت، واستقلوا، وكانت بلرم تمثل الحضارة رفعة ودنوا وتهيئ لمن ينزل فيها كل ما يمكن أن تقدمه الحضارة من خير وشر. وكان قد نشأ بينها وبين المدن الأخرى تفاوت واسع حتى كانت مثالا يثير المنافسة والحسد، وهذا الفرق في الترف نلمحه في صيحة ابن منكود صاحب مازر في وجه ابن البر اللغوي حين عرف أنه يشرب الخمر: " إذا كان ولا بد من شرب الخمر فهذا النوع