للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خير ما يقنع الجماعة الإسلامية بانتصارها على كل موروث صقلي، وخير ما يطمأن الأذهان إلى تثبيت الصبغة الإسلامية في تلك البلاد، وهي طمأنينة لازمة في بلد مجاور للعدو المتربص. وثمة شيء آخر وهو أن ابن حوقل إنما دهش لكثرة المساجد في بلرم وحدها لأنه لم يزر من صقلية بلداً آخر فيما يظهر، وكانت بلرم يومئذ هي العاصمة ومجتمع أهل الأدب ومنتجع طلاب العلم من سائر أنحاء صقلية، فنشاط الحركة التعليمية فيها كان سبباً في الاستكثار من المساجد وانضاف إلى هذا ما قاله ابن حوقل من التكاثر بها، وأصبح غرض كل واحد من بناء المسجد " أن قال مسجد فلان لا غير " (١) .

في هذه المساجد وفي المكاتب كثر المعلمون، حتى كان منهم في بلرم ما لا يقل عن ثلاثمائة معلم. وفكرة ابن حوقل عن المعلم مستمدة من الصورة الساخرة التي رسمها الجاحظ، وهي فكرة وجدت سبيلها أيضاً إلى الأندلس حيث نجدها عند أبي عامر بن شهيد حين يقول في تصويره ثقافة المعلم " وقوم من المعلمين بقرطبتنا ممن أتى على أجزاء من النحو وحفظ كلمات من اللغة، يحنون على اكباد غليظة وقلوب كقلوب البعران، ويرجعون إلى فطن حمئة وأذهان صدئة سقطت إليهم كتب في البديع والنقد فهموا منها ما يفهمه القرد اليماني من الرقص والإيقاع " (٢) .

ويغلو ابن حوقل في حملته على المعلمين حتى ليراهم يمثلون الجنون والصرع ويعتقد أن الناس أجمعوا على أن المعلم محكوم عليه بالنقص والجهل والخفة وقلة العقل. غير أن معلمي صقلية في نظرة يتفوقون في هذه الصفات على معلمي كل بلد. ومما كثرهم فيها " فرارهم من الغزو ورغبتهم عن الجهاد، وذلك أن بلدهم ثغر من ثغور الروم وناحية تحاد العدو، والجهاد فيهم لم يزل قائما والنفير دائما مذ فتحت صقلية " (٣) ولذلك لم يكن يعفى من الجهاد إلا


(١) المكتبة الصقلية: ٧.
(٢) ابن بسام، الذخيرة القسم الأول المجلد الأول: ٢٠٥.
(٣) ابن حوقل (الطبعة الثانية) ١/ ١٢٦.

<<  <   >  >>