مذهب المواضعة والاصطلاح. وهذا المذهب ذكره ابن جني، فقال:"إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة، وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء، فيضعوا لكل منها سمة، ولفظا يدل عليه، ويغني عن إحضاره أمام البصر. وطريقة ذلك أن يقبلوا مثلا على شخص، ويومئوا إليه قائلين: إنسان! فتصبح هذه الكلمة اسما له، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أو رأسه أو قدمه، أشاروا إلى العضو وقالوا: يد، عين، رأس، قدم ... إلخ.
ويسيرون على هذه الوتيرة، في أسماء بقية الأشياء، وفي الأفعال والحروف، وفي المعاني الكلية، والأمور المعنوية نفسها، وبذلك تنشأ اللغة العربية مثل، ثم يخطر بعد ذلك لجماعة منهم كلمة: "مرد" بدل إنسان، وكلمة: "سر" بدل رأس، وهكذا فتنشأ اللغة الفارسية"١.
وليس هذا المذهب، أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي، بل إن ما يقرره ليتعارض مع النواميس العامة، التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالا، ولا تخلق خلقا. بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن التواضع على التسمية، يتوقف في كثير من مظاهره، على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون. فكيف نشأت هذه اللغة الصوتية إذن؟ وهكذا نرى أن ما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة، يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل.