للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المذهب الرابع]

نظرية التنفيس عن النفس، وتتلخص في أن مرحلة الألفاظ، قد سبقتها مرحلة الأصوات الساذجة التلقائية الانبعاثية، التي صدرت عن الإنسان، للتعبير عن ألمه أو سروره أو رضاه أو نفوره، وما إلى ذلك من الأحاسيس المختلفة، فهذه الأصوات الساذجة، قد تطورت على مر الزمن، حتى صارت ألفاظا.

ويشرح "فندريس" تصور أصحاب هذه النظرية، لكيفية نشأة اللغة، فيقول: "عند هذا السلف البعيد، الذي لم يكن مخه صالحا للتفكير، بدأت اللغة بصفة انفعالية محضة. ولعلها كانت في الأصل مجرد غناء، ينظم بوزنه حركة المشي، أو العمل اليدوي، أو صيحة كصيحة الحيوان، تعبر عن الألم، أو الفرح وتكشف عن خوف أو رغبة في الغذاء. بعد ذلك لعل الصيحة اعتبرت، بعد أن زودت بقيمة رمزية، كأنها إشارة قابلة لأن يكررها آخرون. ولعل الإنسان وقد وجد في متناول يده هذا المسلك المريح، قد استعمله للاتصال ببني جنسه، أو لإثارتهم إلى عمل ما أو لمنعهم منه ... هذا الفرض تبدو عليه مخايل الصدق، وإن لم يكن مما يمكن البرهان عليه"١.

وتمتاز هذه النظرية عن سابقتها بأنها تعزو نشأة اللغة الإنسانية إلى أمر ذاتي، أي أنها تعتد بالشعور الوجداني الإنساني، وبالحاجة إلى التعبير عما يجيش بصدر الإنسان، من انفعالات وأحاسيس. أما النظرية السابقة، فترجع نشأة اللغة الإنسانية إلى ملاحظة خارجية موضوعية، أي ملاحظة مظاهر الطبيعة ومحاكاتها في ابتكار الأسماء الدالة عليها، ولذلك كانت هذه النظرية، خطوة أخرى في اتجاه آخر، نحو البحث عن حل للمشكلة، فإنها تشرح لنا منشأ بعض الكلمات، التي تعجز النظرية السابقة، عن شرح منشئها.

ومع كل هذا فإنها نظرية ناقصة وغامضة. أما نقصها، فلأنها لا تبين منشأ الكلمات الكثيرة، التي لا يمكن ردها إلى أصوات انفعالية. وأما غموضها، فلأنها لا تشرح لنا السر في أن تلك الأصوات الساذجة الانفعالية، تحولت إلى ألفاظ أو أصوات مقطعية، فلهذين الأمرين انصرف عنها اللغويون، وسخر منها "مكس موللر" كذلك.


١ اللغة لفندريس ٣٨، ٣٩.

<<  <   >  >>