للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في عصره من تنظيم حربي، وكانت الحرب قائمة بينهم، وبين العرب لا يهدأ أوارها.

ونحن نقف في منزلة وسطى بين طه حسين، ومن كتبوا عن عبد الحميد من القدماء، فقد أجمعوا على أنه كان فارسيا، وأنه نقل عن الفرص بعض رسائل أدبية، وإذا فهو في نثره يتأثر الفرس تأثرا مباشرا لا شك فيه، أما تأثره باليونان فلعله جاءه عن طريق أستاذه سالم الذي كان يحذق اليونانية، وهي تظهر عنده في التزامه المنطق الدقيق في تقسيم كلامه إلى أجزاء متميزة وفقر متناسقة، لا يظهر فيها أي نبو، ولا يداخلها أدنى شيء من استطراد أو تشعث، وفي رأينا أن سالما هو الذي اتبع ذلك أولا في رسائله بحكم ثقافته اليونانية، ثم حاكاه تلميذه، كما حاكاه في لازمة الحال، وفي أسلوبه الموسيقي الذي يقوم على الازدواج والترادف الصوتي، وهو أسلوب سبق إليه الوعاظ من أمثال غيلان الدمشقي، والحسن البصري، ونقله عنهم سالم في كتاباته، وجاراه تلميذه عبد الحميد فيه، حتى أوفى به على غايته، فبهر معاصريه ومن خلفوهم، وانظر إليه يقول في مطلع هذه الرسالة السياسية الطويلة١:

"اعلم أن للحكمة مسالك تفضي مضايق أوائلها بمن أمها سالكا، وركب أخطارها قاصدًا، إلى سعة عاقبها، وأمن سرحها٢، وشرف عزها، وأنها لا تعار بسخف الخفية ولا تنشأ بتفريط الغفلة.. واعلم أن احتواءك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع أمورك موثرا بها، وإضمار طاعته منطويا عليها، وإعظام ما أنعم الله به عليك شاكرًا له، مرتبطا فيه بحسن الحياطة له، والذب عنه من أن تدخلك منه سآمة ملال، أو غفلة ضياع أو سنة تهاون، أو جهالة معرفة، فإن ذلك أحق ما بدئ به ونظر فيه معتمدا عليه بالقوة والآلة والعدة، والانفراد به من الأصحاب والحامة، فتمسك به لاجئا إليه، واعتمد عليه مؤثرا له، والتجئ إلى كنفه متحيزا إليه، فإنه أبلغ ما طلب به رضا الله، وأنجحه مسألة، وأجزله ثوابا، وأعوده نفعا، وأعمه صلاحا".


١ صبح الأعشى للقلقشندي ١٠/ ١٩٥، وما بعدها.
٢ السرح: المال السائم.

<<  <   >  >>