اتخذت في هذا الكتاب السيرة التي اتخذتها في كتاب "الفن ومذاهبه في الشعر العربي"، فقد درست هناك الشعر في عصوره المختلفة دراسة أتاحت لي أن أضع للفن فيه -أو بعبارة أخرى لصناعته- ثلاثة مذاهب، وهي: الصنعة والتصنيع والتصنع، ومذهب الصنعة هو المذهب الذي نجده في أقدم نماذج الشعر العربي، إذا كان أصحابه يخضعون لطائفة من الرسوم، والتقاليد في صنعه، وهي تقاليد ورسوم تجعل الإنسان يشعر بأن أدبنا العربي منذ أقدم العصور أدب تقليدي، إذ تتضح فيه عناصر التقليد اتضاحا تاما، غير أن هذه العناصر لا تطغى على عناصر التحول والتطور فيه، ومن أجل ذلك كنا لا نمضي في درس الشعر العربي بعد خروجه من البادية إلى المدن المتحضرة، حتى نرى مذهبًا جديدًا يخرج في صناعته، هو مذهب التصنع الذي كان يقوم على طرائف الزخرف المختلفة من بديع وغير بديع، ونتغلغل في العصر العباسي، فإذا الحضارة العربية تتعقد تعقدا شديدا، وهو تعقد لم يلبث بأن انتقل إلى الصناعة والفن في الشعر، فأهل لخروج مذهب جديد هو مذهب التصنع الذي كان يقوم على تصعيب طرق الأداء، وقد جمد الفن في الشعر العربي عند هذه المذاهب الثلاثة، ولم يتجاوزها إلى مذهب جديد.
وهذه المذاهب التي فسرت بها الفن في الشعر العربي، ومراحله المتتابعة هي نفسها التي فسرت -على ضوئها- الفن في النثر العربي ومراحله بالمتعاقبة، فقد بدأت صناعة النثر في العصر الجاهلي بصورة فنية لا تأنق فيها، ولا تعقيد تبعا لحياة العرب البسيطة التي لم تكن تعتمد على تصعيب في الأداء، ولا على تنميق. وفزعت في وصف صورة النثر حينئذ إلى نصوص الشعر الجاهلي؛ لأنها أكثر صحة مما يضاف إلى هذا العصر من خطابة، وسجع كهان، ووجدت