في هذه النصوص ما يصور تصويرا تاما طبيعة النثر الجاهلي، وما كان يوفر له أصحابه من تحبير وتجويد.
ويدور الزمن دورة، وإذا الإسلام يفتح صفحة مشرقة في تاريخ العرب، فقد أخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن دائرة الشعوب القبلية إلى دوائر الأمم المتحضرة. وقد رأيت النثر يستمر في أثناء العصر الإسلامي في الصورة التي رسمها العصر الجاهلي من حيث نسجه وصوغه، وإن اختلفت موضوعاته، وتشعبت معانيه، فقد اتسعت الخطابة اتساعا شديدا، وأخذ يظهر بجانبها نوع جديد من النثر، لم يكن للعرب عهد به، وهو الكتابة الفنية، أو ما يسميه بعض الباحثين باسم النثر الفني. واستوعبت -في دقة- نشأة هذا النوع، وأثبت أنه لم ينشأ بفضل العناصر التي تحدرت من أصول أجنبية، وإنما نشأ بفضل العرب أنفسهم، وفي ظل نظمهم السياسية الجديدة. وليس معنى ذلك أني أنكرت تأثير العناصر الأجنبية في هذا النوع، بل لقد أخذت تشارك فيه مع مرور الزمن، ولكنها مشاركة اتصلت بنموه وتطوره لا بوجوده ونشأته. وما زال هذا النوع يتطور في العصر الإسلامي حتى وصل إلى عبد الحميد الكاتب، فأعطاه صورته النهائية، وهي صورة اندمجت في صورة المذهب القديم: مذهب الصنعة والصانعين. وقد ذهبت إلى أن عبد الحميد كان يتصل بالثقافة الفارسية مباشرة، أما الثقافة اليونانية فاتصل بها عن طريق أستاذه سالم الذي كان يعرفها معرفة وثيقة.
ويدور الزمن دورة أخرى، فإذا بنا نصل إلى العصر العباسي، ونلتقي بابن المقفع وسهل بن هارون والجاحظ، وأضربهم ممن كانوا يعنون بالكتابات الطويلة، أو بعبارة أخرى بالرسائل والكتب الأدبية، وقد حافظت هذه الجماعة على إطار النثر الذي تسلمته من عبد الحميد الكاتب، فلم تخرج به إلى مذهب جديد، بل عاشت في إطار مذهب الصنعة القديم، على الرغم من البون الشاسع بين ثقافتها، وثقافة أصحاب المذهب في العصور السابقة. وقد أوضحت منزلة ابن المقفع، وما استطاع أن ينهض به من الملاءمة بين العربية، وما نقل إليها