من كنوز الآداب الأجنبية، إذ استطاع أن يحتفظ لها بخصائصها وبأسلوبها الجزل الرصين. أما الجاحظ فعنيت ببيان فنه عناية واسعة، ودرست له "رسالة التربيع والتدوير" دراسة مفصلة، وذهبت في تعليل تكراره المسرف إلى أنه كان يملي كثيرا من كتبه، إذ أملى البيان والتبيين والحيوان والبخلاء، ورسالة التربيع والتدوير نفسها، ومن أجل ذلك اتسمت كتاباته -غالبًا- بمياسم كتب الإملاء والمحاضرة من حيث التكرار والاستطراد، وما يتصل بذلك أحيانا من خلل في البناء.
ولما تركت هذه الجماعة من أصحاب الكتابات الطويلة في العصر العباسي إلى أصحاب الكتابات الرسمية القصيرة، أو بعبارة أخرى أصحاب الدواوين والكتابة الديوانية، وجدت هذه الجماعة الثانية تسعى إلى إحداث مذهب جديد، هو مذهب التصنيع، وهو مذهب كان يعبر تعبيرا دقيقا عن الحضارة العباسية، وما يطوي فيها من تأنق وتنميق. وما زالت مقدمات هذا المذهب تتراءى -من حين إلى حين- في الدواوين العباسية حتى إذا كان مطلع القرن الرابع للهجرة، وجدت السجع يعم في دواوين المقتدر. وما لبث ابن العميد وزير البويهيين أن وصل بهذا السجع إلى ما كان ينتظر له من ترصيع بطرائف البديع المعروفة من جناس وطباق وتصوير. وعللت لاكتمال المذهب عند ابن العميد بأنه كان يتقن فن التصوير، وعلم الحيل "الميكانيكا"، فذهب يحتال في نماذجه حيلا أدته إلى أن يوفر لها كل ما يستطيع من زخارف السجع والبديع. ووقفت بعد ذلك عند أنصار هذا المذهب من مثل الصاحب بن عباد، وأبي إسحاق الصابي والخوارزمي، وبديع الزمان، ولاحظت أن بذورا مكتنة لمذهب ثالث أخذت تظهر عند الأخيرين، وقد بدت في شكل أتم وأوضح عند قابوس بن وشمكير، وما هي إلا أن يدور الزمن دورة، فإذا هذا المذهب تتم له صورته عند أبي العلاء، ونقصد مذهب التصنع الذي كان يقوم على تصعيب رق الأداء، وتعقيدها ضروبا من التعقيد، وإن الإنسان ليشعر كأن التعقيد أصبح غاية في نفسه، ولنفسه! واستطردت من أبي العلاء إلى الحريري في آثاره والحصكفي في نماذجه،