رأينا -في الفصل السابق- كتاب الدواوين في القرن الرابع للهجرة، وكل منهم يحاول أن يبلغ من تصنيعه، وتجميله لأساليبه ما لم يبلغه كتاب آخر من كتاب الحكام، والأمراء المجاورين له، إذ كان هؤلاء الأمراء، والحكام يعتدون بالكتابة المصنعة، التي شاعت في تلك العصور، وكان كل منهم يحاول أن يكون في بلاطكه، ودواوينه أهم كاتب في عصره، حتى تشتهر دولته بتلك الطرف الزخرفية، التي يخرجها هذا الكاتب، وما من ريب في أن هذه الحال دفعت الكتاب إلى أن يصلوا بنثرهم، وتنميقه إلى مرتبة تكاد ترفع الحواجز بينه وبين الشعر، فهو نثر منظوم أو هو شعر منثور، وماذا يفصل بينه وبين الشعر؟ إنه يعتمد على الموسيقى: موسيقى السجع، كما يعتمد على زخرف البديع، وإنهم ليبالغون في ذلك حتى تتحول رسائلهم إلى ما يشبه الوشي الخالص؛ فهي حلى وتنميق، وبديع وترصيع.
وإن الإنسان ليخيل إليه، كأنما تحولت صناعة النثر في تلك العصور عن طبيعتها الأولى تحولًا تاًما، إذ أصبحت أشبه ما تكون بصناعة أدوات الترف، والزينة فهي تحف تنمق في أروع صورة للتنميق، وكل كاتب يتوفر على إحداث هذه التحف توفرًا يتيح له أن يشارك في آيايتها، وبدائعها، وإنه ليعنت نفسه في سبيل ذلك إعناتًا بعيدًا، ونحن -في الواقع- لا نكاد نتصور الآن ما كان يحدث في تلك العصور في أثناء صناعة هذه التحف، والطرف لبعد العهد