للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بيننا وبينها؛ ولأننا أصبحنا عجلين في إحداث النماذج الفنية، وما تحتوي عليه من زخارف دقيقة، بل لقد أصبحنا ننفر من التصنيع، وما يطوى فيه من سجع وبديع، ومن يقرأ في آثار القرن الرابع يحس أن هذا المذهب من التصنيع، لم يقف عند كتاب الدواوين، بل لقد أخذ ينتشر بين غيرهم من كتاب الرسائل الشخصية، وعلى رأسهم أبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني، فقد تركا مجموعتين كبيرتين من الرسائل، ذهبًا فيهما هذا المذهب من السجع، والبديع أو من التصنيع والترصيع، ولم يكن الخوارزمي، وبديع الزمان هما اللذين يذهبان هذا المذهب فقط، بل كان يذهبه جميع الكتاب من حولهما.

يقول الخوارزمي في كتاب إلى أبي محمد العلوي: "قرأت الفصل المسجع فشغلني الاقتباس منه، عن الجواب عنه"، وهو يتقدم ذلك بوصف هذا الفصل فيقول: "ورد كتاب السيد، فرتع الطرف منه بروضة ممطورة، وحلة منثورة، ولآلئ فرائد منثورة"١، وهكذا كانت كتابة الأدباء في هذا العصر، قد كانوا دائمًا ينمقون كتبهم، ويزخرفونها حتى تصبح كأنها الرياض المنمقة، والحلل المنشرة.

والحق أن موجة التصنيع في القرن الرابع، كانت حادة حدة شديدة، فلم يسلم منها أحد إلا في القليل الأقل، حتى كتاب التاريخ أنفسهم رأينا بينهم من يختار لنفسه هذا الأسلوب الجديد من التصنيع، وبدأ هذه الحركة الصابي في كتابه "التاجي في أخبار بني بويه"، ثم تبعه المؤلفون في التاريخ أمثال العتبي في كتابه "اليميني" نسبة إلى محمود بن سبكتكين الغزنوي، إذ لقبه الخليفة "يمين الدولة وأمين الملة"، وهو كتاب في تاريخ سبكتكين، وابنه محمود، وقد نال شهرة كبيرة في عصره، وبعد عصره، يقول السبكي: "كان أهل خوارزم، وما والاها يعتنون بهذا الكتاب، ويضبطون ألفاظه أشد من اعتناء أهل بلادنا بمقامات الحريري"٢، وما من شك في أن الصابي من جانب، والعتبي من جانب آخر


١ انظر رسائل أبي بكر الخوارزمي "طبع الجوائب" ص٣٧.
٢ طبقات الشافعية ٤/ ١٣.

<<  <   >  >>