من يبحث في مختلف عصورها يجدها أشبه ما تكون بمعبد كبير، أغلقت أبوابه على طائفة من الرسوم، والطقوس لا تتغير، ولا تتبدل، بل دائمًا تظل كما هي في كل حكم وفي كل عصر، وهذا المعبد الكبير أتيحت له أسباب طبيعية جعلته يعيش معيشة مستقلة في عاداته وتقاليده، ونقصد بتلك الأسباب ما قام على أسواره من الصحراء الشرقية والغربية، فإنهما عزلتاه عن الاختلاط والانسياج في الأمم الأخرى، وحقًا قد تمر بهذا المعبد العظيم عاصفة هوجاء، فتفتح أبوابه ويدخل جيش فاتح على رأسه قائد مظفر، ولكن سرعان ما يذوب هذا الجيش، ويفنى في أبناء المعبد وطقوسهم وعاداتهم، وفي هذا المعبد يجري نهر النيل نافثًا لعابه من حوض إلى حوض في أوان "يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه"، وحول هذا النهر يعيش المصريون، عن عصر الفراعين إلى العصر الحديث "يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب"، وقد ظلوا يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام وجيلًا بعد جيل يعملون على وتيرة واحدة، ينقلون الماء من هنا إلى هناك بهذه الأواني من الطوابير، وما يتصلى بها، يبعثون الحياة في وديان مصر، وأحواضها "فبينما مصر لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضرة، فإذا هي ديباجة رقشاء"، وهكذا مصر دائمًا: كتاب أحكمت سطوره ونقوشه منذ أقدم الأزمنة، وما تزال هذه السطور والنقوش واضحة غير مطموسة، فالناس يعيشون كما كان يعيش آباؤهم، وأسلافهم يربضون في وديان النيل في تلك المياة المشبعة بالطمي، يديرون آلات لا تكاد تخلتف في عن آلات أجدادهم، وإنهم ليحيون بطرق لا تختلف أيضًا كثيرًا عن طرق أسلافهم، ومن ثم كانت مصر بلدًا محافظًا، يحتفظ بشخصيته ومقوماتها على مر العصور، وقد كان لذلك أثر جليل.