للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في تاريخ مصر، فإنها استطاعت أن تحتمل الفتوح المختلفة، وأن تصمد لها دون أن يطمس شيء مهم من معالمها لما لديها من امتناع عن التحول، وقدرة على الإساغة والهضم، فإذا هي تهضم ما يدخل إليها من عناصر أجنبية، هضمت قديمًا الرعاة الهكسوس، وما دخلها من عناصر الأشوريين، والحيثيين والفرس واليونان والرومان، بل لقد هضمت عناصر العرب أنفهسم مع اتساع تأثيرهم فيها من الوجهتين الدينية واللغوية.

وهذه المحافظة في مصر وما يطوي فيها من مقدرة على الاستمرار، ليس معناها أن مصر تستعصي على العناصر الثقافية عند الأمم الأجنبية، فكثيرًا ما تقبلت قديمًا وحديثًا هذه العناصر، وحاولت أن تهضمها، وتعيدها في صورة جديدة تلائمها، ولعل أوضح ما يفسر ذلك ما كان من استقبالها في الإسكندرية للثقافة اليونانية، فقد استطاعت أن تسوعبها، وأن تنفذ من ذلك الاستيعاب إلى مذهب جديد في الفلسفة هو مذهب الأفلاطونية الحديثة، وهو مذهب يعتمد على العناصر اليونانية من جهة، والعناصر المصرية، وما يتصل بها من معتقدات من جهة أخرى، ولم تحاول مصر الاتصال بثقافة اليونان الذين فتحوها فقط، بل نراها تحاول الاتصال بثقافات أخرى لم يكن لأهلها نفوذ سياسي بها، ولعل خير مثال لذلك اتصالها بالثقافة السريانية في أثناء الحكم الروماني، وخاصة فيما يتصل بدارسة الطب، يقول بتلر: "قد كان ثمة اتصال خاص بين لغة السريان ودراسة الطب، وإنه لا يبعد أن أعظم كتب الطبي في القرنين السادس والسابع كانت باللغة السريانية، ولا شك أن تلك اللغة كانت ذائعة بين الناس، وأن آدابها كانت دائمًا تدرس في الإسكندرية، حتى قبل أن تفد جموع العلماء إلى مصر من سوريا عند غزو الفرس لها"١، ومن هذه اللغة ترجم لعمر بن عبد العزيز كتاب أهرون القس في الطب٢، ولم تنس مصر لغتها القبطية، فقد كانت تتخذها في طقوسها الدينية، كما كتبت


١ فتح العرب لمصر "الترجمة العربية" "طبع لجنة التأليف" ص٨٤.
٢ تاريخ الحكماء "مختصر الزوزني" طبع ليبزج ص٣٢٤.

<<  <   >  >>