إذا تركنا عصر الأمراء الأمويين، وانتقلنا إلى عصر ملوك الطوائف، وجدنا الأندلس تنهض نهضة واسعة في أدبها من شعر ونثر، وكأنما انقسامها إلى وحدات صغيرة أهلا لنشاط أدبي واسع، إذ أصبح لكل وحدة صغيرة، أو بعبارة أخرى، لكل مدينة، حكم مستقل، وسعى كل حاكم -بسبب ما بينه وبين الحكام الآخرين من تنافس- إلى تشجيع الحركة العليمية والأدبية في وطنه، ومقر حكمه وملكه، وبذلك أضفى انقسام الأندلس إلى دويلات على العلم والأدب تقدمًا ورقيًا عظميًا، وإن الأندلس في ذلك لتشبه إيران في القرن الرابع الهجري، حين توزعتها دول وإمارات مختلفة، فقد لاحظنا في غير هذا الموضع أن هذا التوزع، وما صحبه من قيام مدن، ومراكز كثيرة أهل لنهضة أدبية رائعة، وكذلك الشأن في الأندلس في أثناء القرن الخامس للهجرة، فإن انقسامها إلى أندلسيات متعددة، جعل مراكز النشاط الأدبي فيها تتعدد أيضًا، وكان كل حاكم أو أمير يعنى بأن يكون في بلاطه أهم كاتب في إقليمه، ومن ثم أصبحت كل مدينة تشتهر بكاتب مهم، إن لم يكن بطائفة من الكتاب، وتعقب صاحب الذخيرة هذه الظاهرة، فعرض لكتاب كل مدينة عرضًا مفصلًا، ومن يرجع إليه في كتابه المذكور، يلاحظ أن الكتاب كلهم غمرهم ذوق السجع، فهم جميعًا يسجعون، وكان الكتاب في العصر الأموي يتخففون من السجع أحيانًا، كما رأينا عند ابن شهيد، أما في هذا العصر فإنه يلتزمونه التزامًا، بل قد يجد الإنسان في عصر الأمويين كاتبًا لا يسجع مطلقًا، وإنما يزواج مثل ابن برد الأكبر، أما في هذا العصر، فإن الكتاب جميعًا يسجعون، ومن أبرعهم في ذلك ابن برد الأصغر حفيد ابن برد الأكبر، وقد روى له صاحب الذخيرة مجموعة كبيرة، من رسائله، كما روى له مناظره بين السلف والقلم، ومن يقرأ المناظرة والرسائل لا يحس جديدًا، فقد جمدت الأندلس عند صياغة المشارقة، ولم تستطع أن تضيف إليها من جديد، وهل يستطيع الغنسان أن يجد في الذخيرة لهذا العهد اتجاهًا جديدًا، أو لونًا جديدًا؟ إنه ليس هناك إلا التقليد والمحاكاة وأن يحتذى الكاتب على نموذج مشرقي، فإذا هو يصنع رسائل كرسائل المشارقة، أو يصنع مقامة كمقاماتهم على نحو مقامة أبي حفص عمر بن الشهيد، التي رواها صاحب الذخيرة، ونحن نلاحظ عند هؤلاء الكتاب عامة أنهم لم يعنوا بالبديع، لكنهم استمروا -كما رأينا عند ابن شهيد- يعنون بالغريب، وبالأمثال والاقتباس