أي ضرب من ضروب الرطانة الأعجمية، فالعربية -عنده- تحتفظ بمشخصاتها وأصولها، وأوضاعها في النحو والصرف، والاشتقاق والتركيب، بينما تتمثل معاني الثقافات الأجنبية تمثلا دقيقا في ألفاظ مألوفة بينة واضحة، مع حرصه على الدقة والإيجاز، ومع بعده عن التوعر والتعقيد، ومع النسج المحكم الدقيق.
ووطد المتكلمون دعائم هذا الأسلوب العباسي المولد الجديد، بما ملكوا من أزمة العربية، وكنوز الفلسفة والثقافات الأجنبية، وقد أثاروا مباحث كثيرة في علم الكلام، وفي الطبيعة والأخلاق، ولم يكونوا يصنفون فحسب، بل كانوا أيضا يناظرون، ويجادلون الدهرية والزنادقة، والملحدين بهذا الأسلوب الجديد الذي يموج بالألفاظ الجزلة المونقة، والمعاني الغزيرة المرتبة في مقدمات منطقية دقيقة، ومقاييس عقلية سديدة. وكانوا يفحصون مواد تعبيرهم ويمنحنونها ويختبرونها، حتى يضعوا دقائق معانيهم في الألفاظ الطلية التي توائمها، ودفعهم ذلك إلى أن يسجلوا ملاحظات مختلفة، فهم على صحة مخارج الحروف وجمال الألفاظ، ووضوح المعاني ومواطن الإيجاز والإطناب، ومحاسن التعبير، وحاولوا الوقوف على ماسبقهم إليه اليونان، وغير اليونان من آراء وملاحظات في هذه الجوانب، وبذلك كانوا المؤسسين لأصول البلاغة العربية، وقد انتهى عندهم الأسلوب العباسي المولد إلى كل ما كان ينتظره من روعة، وجمال في اللفظ والمعنى.
وكل ما زدته في هذه الطبعة أو صححته، أو نقحته إنما دفعني إليه تحري الدقة، ومن رأيي دائما أن يعيد المؤلف النظر في مؤلفاته حين يعدها للطبع من جديد. وبذلك تنمو الدراسة الأدبية، ويستوفي الدارس حقوقها بقدر ما يستطيع، فتكثر الفائدة منها ويزداد النفع. والله أسأل أن يلهمني السداد في القول، والإخلاص في الفكر والعمل، وهو حسبي ونعم الوكيل.