وبالعز ذلا، وبالجيدة١ حاجة، والسراء ضراء، وبالحياة موتا، لا ترحم من استرحمها، سالكة بنا سبيل من لا أوبه له، منفيين عن الأولياء، مقطوعين عن الأحياء".
وخصائص عبد الحميد جميعه واضحة في هذه الرسالة القصيرة: ففيها لازمة الحال، وفيها جودة التقسيم ودقة المنطق، وفيها الطباق ومقابلاته، والصور وألوانها وخاصة لون الاستعارة، وفيها الازدواج والترادف الموسيقي الذي يتيح لعباراته فنونا مختلفة من الإيقاعات، والموازنات الصوتية، وبذلك كنت تقرؤه، فيلذ عقلك لدقة معانيه، ويلذ شعورك لجمال تصويره، وجمال موسيقاه.
ونحن لا نقول كما قال السابقون: إن الرسائل بدئت بعبد الحميد، فقد بدأت منذ فاتحة العصر الإسلامي، وقام عليها بلغاء كثيرون أتاحوا لها النماء وضروبا من الازدهار، ومن ثم كنا نرفض أوليته في الرسائل ديوانية وغير ديوانية، ولكنا بعد ذلك نثبت له أنه كان القمة التي وصلت إليها نهضة الكتابة في العصر الأموي، لما صارت إليه عنده من هذا اليسر، وتلك المرونة في أداء المعاني اليتكان يجتلبها من الأدب الفارسي، والتي كان يعبر عنها تعبيرا منطقيا دقيقا، لا استطراد فيه، ولا حشو ولا نبو بأي وجه من الوجوه، وأيضًا لما أتاح لها من هذا الأسلوب التصويري الموسيقي، فإذا الكتابة عند تروق العين، والأذن كما تروق العقل والقلب، ومن غير شك هيأت ذلك كله عنده بيئات الوعاظ، كما هيأ له أستاذه سالم، ولكن ذلك لا يضيره، فحسبه أنه كان يملك لغته ويصرفها في أداء معانيه كما يشاء، كما كان يملك أسلوبه وينظمه تنظيما تصويريا وموسيقيا بديعا، مما جعله ينفذ بصنعة الرسائل إلى كل ما كان يريده أصحابها من تنويع في معانيها على أساس من المنطق الدقيق، وجمال في أساليبها على أساس من التصوير الطريف، والإيقاع الصوتي الأنيق.