للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أرأيت إلى هذا الاحتجاج؟ إنه من أهم سمات الجاحظ في كل ما يؤلف، ويكتب ويملي إذ نرى عقله دائمًا مشغوفًا بالأدلة يسوقها على ما يقوله في هذا النحو البديع من الجدل والبحث، ألا تراه يحاول أن يتتبع الشعراء والأدباء في نعتهم للأشياء بالحسن، والجمال ليرى هل ما يضيفون إليه هاتين الصفتين من باب القصار، أو هو من باب الطوال، أو هو منهما جميعًا؟ والجاحظ لا يكتفي بذلك في احتجاجه وجدله، إذ نراه يعمد إلى المغالطة عن طريق الرمح؛ لأنه أجزاء موصول بعضها ببعض، وإذن فالتدوير عليه أغلب! ليس الرمح طويلًا، وإن تراءى ذلك في الظاهر، إنما هو مدور، أما ما قد يبدو من طوله فغير صحيح؛ لأنه يخالف الحقيقة التي تطوى وراءه، وكذلك قصر أحمد بن عبد الوهاب غير صحيح؛ لأنه يخالف الطول الذي يطوى خلفه، وينبغي أن لا نحكم بالظاهر، بل ينبغي أن نحكم بالباطن، وما وراء الظاهر!

وإذا فليس بين أيدينا حقيقة يمكن أن نطمئن إليها، وكل آرائنا التي نكونها عن بعض الأشياء، وأنها طويلة أو قصيرة قابلة للنقض في رأي الجاحظ، كي يرضى ابن عبد الوهاب، ويمده بأسباب من الوقل للاحتجاج على طوله المستتر وراء قصره، وهذا هو معنى أنه يلهج بما عند الناس ويترك ما عند الله، وما من ريب في أن الجاحظ وصل إلى هذا كله عن طريق المغالطة، التي يسوقها في الرمح إذ يقول: إنه يبدو طويلًا، وهو في حقيقة الأمر قصير، أو هو كما يقول الجاحظ مدور، وذلك لسبب بسيط، وهو أنه يتألف من مدورات! وعلى هذا النحو ينتهي الجاحظ إلى أن كل مربع فهو في جوفه مدور، وأوضح أنه يعتمد في ذلك كله على السفسطة، وهو ينفذ منها إلى عرض صاحبه على فكرة القبح والحسن، فإذا هو يصفه بالقبح تارة، وما يلبث أن يصفه بالحسن تارة أخرى، وجاء في ذلك بطرف لا تحصى على شاكلة قوله:

"ولو لم يكن لك إلا أنا لا نستطيع أن نقول في الجملة، وعند الوصف والمدحة: هو أحسن من القمر، وأضوأ من الشمس وأبهى من الغيث، وأنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: كأنه عنقه إبريق فضة، وكأن قدمه لسان حية، وكأن عينه

<<  <   >  >>