بحيل كثيرة، ولم لا؟ ألم يتعلم فن الحيل؟ وإذا فلماذا لا يشفع فنه بكل ما يمكنه من حيل، وقد استطاع أن يصل عن هذه الحيل إلى بدع طريف في سجعه، وذلك أنه كان يعمد إلى تقصير عباراته، وهذا التقصير، أو هذا القصر من أهم الفروق بين سجعه وسجع أصحاب الدواوين من قبله، وقد نظر فرأى نفسه يضطر في أحوال كثيرة إلى عبارات طويلة، فكيف يوفق بين رغبته في القصر، وبين طول هذه العبارات؟ لقد فكر طويلًا في هذه الصعوبة، وسرعان ما هداه تفكيره إلى حيلة طريفة: هي أن يوازن بين كل لفظة، وقرينتها في العبارتين والمتجاورتين، وبذلك يرفع ما قد يحسه القارئ، أو السامع من بعد الزمن في موسيقى الجملتين، وكأني بابن العميد كان يعرف معرفة دقيقة أنه كلما طال الزمن الذي تنتظره الأذن في سماع العبارات المسجوعة نقص التلاؤم الموسيقى. وهو لذلك يعمد كما ترى في أول القطعة إلى السجع القصير، الذي لا يأخذ من قارئه زمنًا طويلًا، ولكن استمر في القراءة تره يضطر إلى الطول في عباراته، فماذا يصنع إزاء هذه الطول الذي يثقل على أذن سامعه؟ لقد وصل إلى حيلة طريفة من الموازنة بين العبارتين المتجاورتين موازنة تجعل ألفاظهما، وكأنها جميعًا قد نغمت وسجعت على نحو ما نرى في مثل قوله:"فإنك تدلي بسابق حرمة، وتمت بسالفه خدمة"، وقوله:"وأبسط يدًا لاصطلامك واجتياحك، وأثنى ثانية لاستبقائك، واستصلاحك"، وما من ريب في أنها حيلة لطيفة تلك التي احتال بها ابن العميد على مثل هذه العبارات، فإذا هي تصبح وكأنها قصيرة لما تكامل فيها من حلاوة الموسيقى، وما تلك الحلاوة إلا ما يتخذه من المعادلة بين ألفاظ عباراته، معادلات تجعل فيها هذا الائتلاف الموسيقي الطريف، فكل كلمة تتعادل مع قرينة لها في الكلمة الأخرى، وكأنما تطلبها لتعزف معها هذا العزف البجيع الذي تمتاز به موسيقى ابن العميد، ولعل في هذا ما يشهد بأن ابن العميد كان يصنع في سجعه إلى أقصى حدود التصنيع التي يستطيعها، وهو يحتال على ذلك بوشي البديع من جهة، كما يحتال عليه بقصر الزمن في سجعه من جهة أخرى، فإن طال زمن العبارتين المسجوعتين قصره بهذه الحيلة