للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أرأيت إلى هذه الرسالة القصيرة، وما فيها من عذوبة اللفظ، وجمال النغم؟ إن الصاحب حقًا أستاذ ماهر من أساتذة فن التصنيع في القرن الرابع، وإنه ليتخذ في هذا الفن جميع المفاتيح الموسيقية التي عثر عليها ابن العميد، فهو من جهة يعني بقصر سجعاته، فإن طالت عادل بين ألفاظها معادلات تخرج بها من شذوذ الطول إلى ما يشبه القصر، ثم هو من جهة أخرى يعني بألوان البديع يحلي بها جيد أساليبه، وقد كان يعنى عناية خاصة بلوني التصوير والجناس، ولعل ميله إلى الجناس هو الذي جعله يكثر في رقع رسائله من الجناس الناقص، أما ميله إلى التصوير، فقد جعله يبرع في أوصاف الطبيعة، حتى لتتحول جوانب من رسائلة إلى ما يشبه الشعر المنظوم كقوله في رسالة له: "كتابي هذا، وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظالم ذيوله"١، وقوله في أخرى يصف مجلس أنس: "قد قابلتني شقائق كالزنوج تجارحت فسالت دماؤها، وضعفت فبقي ذماؤها، وسامتتني أشجار كأن الحوار أعارتها أثوابها، وكستها أبرادها، وحضرتني نازنجات ككرات من سفن ذهبت، أو ثدي أبكار خلقت"٢، وهذا جانب واضح في تصنيعه، وقد استطاع به أن يطرف قراءه، وساميعه بضر من الشعر المنثور الذي تمتلئ سجعاته بالرشاقة، والخفة.

وقد كان بهذا التصنيع، وما يندمج فيه من وشي السجع، والترصيع يأخذ مكانته في عصره، وهي مكانة جعلت أصحاب الإمارات الفارسية يحسدون أصحاب الري، والجبل من البويهيين عليه، ويتمنون أن لو صار إليهم، روى الثعالبي أن نوح بن منصور صاحب خراسان الساماني، أرسل إليه رقعة يريده فيها على الإنحياز إلى حضرته، ليلقي إليه مقاليد مملكته، ويعتمد لوزارته، فاعتذر له بأنه لا يستطيع الانتقال إليه لكثرة حاشيته وأثقاله، وما لديه من كتب تحتاج في نقلها إلى أربعمائة بعير٣، وقد قالوا: إنه لما توفي لقي من الإعظام، والإكبار


١ اليتيمة ٣/ ٢٢٧.
٢ اليتيمة ٣/ ٢٢٣. وخلقت: من الخلوق، وهو ضرب من الطيب.
٣ اليتيمة ٣/ ١٧٣، وانظر معجم الأدباء ٦/ ٢٥٩.

<<  <   >  >>