للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الانحلال ... حتى فاه به في أول عمره، وأودعه أشعارًا له ثم ارعوى، ورجع واستغفر واعتذر! "١، وتصوير القفطي لشكوك أبي العلاء في باكورة حياته، وتعليله لها بلقائه لراهب دير الفاروس، يغلب أن يكون قد أملاه عليه الخيال. وقد رحل أبو العلاء أيضًا إلى بغداد، وكانت سنه إذ ذاك نحو سبعة وثلاثين؛ ولم يرحل إليها طلبا للدرس على بعض الأساتذة هناك، وإنما رحل إليها طلبًا للاطلاع على بعض الكتب؛ وصرح بذلك في إحدى رسائله، إذ يقول: "منذ فارقت العشرين من العمر، ما حدثت نفسي باجتداء علم من عراق ولا شآم.... والذي أقدمني تلك البلاد -يريد العراق- مكان دار الكتب فيها"٢، ومدح أبو العلاء بغداد بكثرة ما فيها من علم، إذ يقول في إحدى رسائله: "وجدت العلم ببغداد أكثر من الحصى عند جمرة العقبة"٣، ويظهر أنه لم يطل مقامه بها، فقد رجع منها بعد قليل إلى موطنه، حيث اعتزل الناس عزلته المعروفة، التي استمرت نحو خمسين عامًا، وأخذ نفسه في هذه العزلة بقوانين صارمة في حياته، إذ عاش معيشة نباتية تعتمد على تحريم أكل اللحم والسمك وما يشتق منهما، ورد العرب هذه النباتية فيه إلى مذهب البراهمة! ٤، ومهما يكن مرجعها، فإنها تدل عى أنه كان يأخذ نفسه بحياة زاهدة، أما ما يزعمه ناصر خسرو، من أنه كان واسع الثراء عنده كثير من العبيد٥، فلا يقوم عليه دليل؛ لأنه يخالف كل ما جاء عنه، يقول القفطي:

"كأن لأبي العلاء وقف يشاركه فيه غيره من قومه، وكانت له نفس تشرف عن تحمل المنن، فمشى حاله في قدر الموجود، فاقتضى ذلك خشن الملبوس والمأكل، والزهد في ملاذ الدنيا، وكان الذي يحصل له في السنة مقدار ثلاثين دينارًا، قدر منها لمن يخدمه النصف، وأبقى النصف الآخر لمؤونته، فكان أكله العدس، إذا أكل مطبوخًا، وحلاوته التين، ولباسه خشن الثياب من القطن،


١ تعريف القدماء ص٣١.
٢ رسائل أبي العلاء "طبع مرجليوث" ص٣٢.
٣ رسائل أبي العلاء ص ٣٠.
٤ انظر نزهة الألبا في طبقات الأدبا لابن الأنباري ص٤٢٧، ولسان الميزان لابن حجر ١/ ٢٠٤، وتاريخ أبي الفداء في حوادث ٤٤٩.
٥ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجرة لآدم ميتز "طبع لجنة التألف" ٢/ ١١٠.

<<  <   >  >>