للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وروى له الجاحظ أيضا قطعة من خطبة أخرى على هذا النحو: "يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، أين المعروف الذي لم يشكر، والظلم الذي لم ينكر"١.

وواضح أن هذه القطع من خطابة قس بنيت على السجع، وقد روى الطبري كلمة لنفيل بن عبد العزوى في منافرة عبد المطلب بن هاشم، وحرب بن أمية، وهي مسجوعة٢ كما روى أبو عبيدة في النقائض منافرة جرير بن عبد الله البجلي، وخالد بن أرطاة الكلبي إلى الأقرع بن حابس، وهي مسجوعة أيضا٣، وبنيت على السجع كذلك منافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل٤.

ولم نسق ذلك لنسلم بصحة هذه المرويات من المنافرات وصحة صياغتها، ولكنا سقناه لتخلص منه إلى أنه ثبت عند من كانوا يروون المنافرات والخطب الجاهلية أنها كانت تعتمد اعتمادا شديدا على السجع، ويؤيد ذلك قول الجاحظ: إن "ضمرة بن ضمرة وهرم بن قطبة، والأقرع بن حابس ونفيل بن عبد العزى كانوا يحكمون وينفرون بالأسجاع، وكذلك ربيعة بن حذار"٥، وقد اشتمل هذا النص على خطباء من تميم، وأسد وفزارة وقريش، وفي ذلك ما يدل على شيوع السجع في الخطابة الجاهلية. وما من شك في أن صناعة السجع تحتاج إلى قيم موسيقية كثيرة، حتى تتم معادلاته الصوتية وموازناته الإيقاعية، وكانوا يدمجون كثيرا من الصور والتشبيهات والاستعارات في هذا السجع، كما كانوا يدمجون كثيرا من التجويد والتحبير، ويشهد لهم الجاحظ بما كانوا يعانونه في خطبهم وخاصة الطويلة منها إذ يقول: "لم نرهم يستعملون مثل تدبيرهم في طوال القصائد، وفي صنعة طوال الخطب ... وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير، ومهمات الأمور ميثوه٦ في صدورهم، وقيدوه على أنفسهم، فإذا قومه


١ انظر هذه القطع من خطابة قس في البيان والتبيين ١/ ٣٠٨-٣٠٩.
٢ الطبري، القسم الأول ص١٠٩١.
٣ النقائض لأبي عبيدة ١/ ١٤١.
٤ أغاني "طبعة الساسي" ١٥/ ١٥.
٥ اليبان والتبيين ١/ ٢٩٠.
٦ ميثوه: ذللوه وأعدوه.

<<  <   >  >>