للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

منقوطة، وغير منقوطة بحيث لا تتوالى بل دائمًا تتفاصل هذا التفاصل، الذي يجعل الطرف ينتقل بين حرف منقوط، وغير منقوط، أرأيت إلى هذا البدع الجديد بدع الحريري؟ وإنه لبدع يبرهن به على مقدرته، ومهارته في صوغ الكلام، ولكن أي صوغ؟ طبعًا هذا الصوغ المعقد في الأداء، فإذا هو لا يستقيم في كتابته، بل يعوج هذا الاعوجاج الذي يتيح له مثل هذه الصعوبات والتعقيدات، وقد ألف خطبة -في المقامة المسماة بالواسطية- من كلمات لا تشتمل على أي حرف منقوط، وقدمها بقوله: إنها "لم تفتق رتق سمع، ولا خطب بمثلها في جمع"، وليست هذه هي كل طرائف الحريري، فقد كان ما يزال يبحث عن طرائف جديدة، يظهر بها مهارته في تعقيد أدائه بالقياس إلى من سبقوه وعاصروه، وذهب يحاول غريبة، هي أن يأتي بالجملة ثم يعكسها في الجملة التالية، وسمي ذلك في المقامة المغربية ما لا يستحيل بالانعكاس، ومثل له بقوله:

"لم أخا مل، كبر جاء أجر ربك من يرب١ إذا برينم، سكت كل من نم لك تكس٢، بكل مؤمل إذا لم وملك بذل"

وهذه آخر صورة، وصل إليها التعقيد عند الحريري، فقد ذهب يقلب تعبيراته هذا القلب لتطرد له صورة من الألفاظ المتعاكسة في عباراته، وكأن ذلك هو ما يحرص عليه الفن في أساليبه! ولكن أي أساليب؟ أنها طبعًا أساليب التصنع، وما يطوى فيه من تعقيد، وتصعيب في طرق الأداء على هذه الهيئة، فإذا الكاتب يفر من الأداء المستقيم إلى الأداء الملتوي، لا ليدل على شيء سوى مهارته في اللعب والعبث بالألفاظ، وأنه لعبث ينتهي به إلى هذه الصورة الهندسية، التي لا تحوي فنا ولا جمالًا، وإنما تحوي تعقيدًا، كأنما التعقيد غاية ينبغي أن يطلبها الكاتب في آثاره وأعماله، ونحن في الواقع نبحث عبثًا إذا حاولنا أن نجد كاتبًا مهمًا بعد أبي العلاء، لا يركب مثل هذه الطرق الملتوية في تعبيره الفني، إذ كانت هي المقاييس التي تقاس بها مقدرة الكاتب وبراعته، وليس معنى ذلك


١ يرب: يصون الصنيعة.
٢ تكس: تكن كيسًا.

<<  <   >  >>