وأهم أثر تركه ابن شهيد هو رسالة التوابع والزوابع، والتابع الجن والزوبعة الشيطان، وسماها بهذا الاسم؛ لأنه بناها على شيطان تراءى له في وقت أرتج عليه فيه، وهو ينظم شعرا فأجازه، ولما تعارفا طلب إليه ابن شهيد أن يلقى به شياطين الشعراء والكتاب الذين غبروا، فأجاب طلبته، وحمله على جناحه إلى وادي الجن، حيث التقى بكثير من شياطين الشعراء الجاهليين والإسلاميين والعباسيين، كما التقى بطائفة من شياطين كتاب المشرق، وتدور القصة في الرسالة على أنه يلقى التابع للشاعر المشهور، فينشده شعرًا لصاحبه، ثم ينشده ابن شهيد بعض شعره، فيعجب به، ويجيزه آية على قدرته البلاغية، وكذلك يلقى توابع الكتاب أمثال عبد الحميد، والجاحظ وبديع الزمان، فيعرض عليهم رسالته في وصف البرد والنار والحطب، كما يعرض عليهم رسالته في الحلواء. وايضًا فإنه يعرض عليهم صفته لثعلب ولبرغوث، ويستحسنون ما يعرض ويجيزونه. ووقف تابع الجاحظ عند سجعه، وقال له: إن كلامك نظم لا نثر فزعم أن تلك صفة أهل بلده، وأنهم يعجبون بالسجع وطابعه، وهكذا تنفض جموع الجن، وهي تشهد بأنه شاعر بديع، وكاتب بليغ.
والرسالة تفيض بروح الفكاهة، كأن نراه يعرض لبركة ماء بإحدى جوانب وادي الجن، ومن حواليها طائفة من حمر الجن، وبغالها وتتقدم له بغلة شهباء عليها جلها، وبرقعها فتنشده بعض الشعر، وأخيرًا تقول له:"أما تعرفني أبا عامر؟
قلت: لو كانت ثم علامة، فأماطت لثامها فإذا هي بغلة أبي عيسى، والخال على خدها، فتباكينا طويلًا، وأخذنا في ذكر أيامنا". وما من شك في أن هذا الجانب في التوابع والزوابع يكسبها خفة ورشاقة، ومن يرجع إليه يجد ابن شهيد لا يستخدم فيها دائمًا أسلوب السجع، بل تارة يسجع وتارة لا يسجع، وهذا هو معنى قولنا: إن الكاتب الكبير في الأندلس، لم يكن يخضع في صنع نماذجه لمذهب معين من مذاهب المشرق، بل هو -على نحو ما نرى الآن عند ابن شهيد- كان يتقلب بين المذاهب والمناهج المختلفة، ومع ذلك فلا تظن أن ابن شهيد حين يستخدم السجع كان يستخدم البديع، الذي هو الشق الثاني لمذهب التصنيع،