للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي أثناء ذلك تقد على مصر جموع من الشام، إما فرارًا من الحكم العثماني وما كان ينطوي فيه من ظلم، وإما ابتغاء للنجاح الأدبي في مصر، وكانت هذه الجموع تتأثر بالآداب الأوربية أوسع مما تتأثر بها مصر، وذهب فريق منها إلى أمريكا، وأنشأوا صحفًا ومجلات هناك، وهم جماعة أدباء المهاجر الأمريكي، الذين امتازوا بثورة واسعة على اللغة العربية وأصولها.

ونرى من ذلك أن مصر كان بها في أواخر القرن التاسع عشر أربع طوائف، وهي طائفة الأزهريين المحافظين، ثم طائفة المجددين المعتدلين اللذين يريدون أن يعبروا بالعربية، دون استخدام سجع وبديع، وطائفة المفرطين في التجديد الذين يدعون إلى استخدام اللغة العامية، ثم طائفة الشاميين، وكانت في صف الطائفة الثانية، وما تزال المعارك تشتد بين الطائفة الأولى، والطوائف الأخرى حتى تنتصر طائفة المجديدين المعتدلين، فيعدل المصريون في كتابتهم إلى التعبير بعبارة عربية صحيحة، لا تعتمد على زينة من سجع وبديع، وإنما تعتمد على المعاني، ودقتها على نحو ما نرى في ترجمات، فتحي زغلول، وكتب قاسم أمين.

وهكذا أتيح لمصر أن تخرج من هذه المعارك، التي أقامت فيها لأواخر القرن التاسع عشر حول صياغة النثر بظفر محقق، إذ اعتمدت على اللغة العربية الصحيحة الحرة الحالية من قيود السجع، والبديع واتخذتها للسانها في كتابتها. أما العامية، فسرعان ما خرجت من بيئة الأدب، والأدباء إلى بيئة الفكاهة وصحافتها الهزلية، فظلت تعيش فيها حتى عصرنا الحاضر، وأما كتابة السجع والبديع، فقد انحازت عن الكتابات الأدبية، وإن ظلت تظهر -من آن إلى آخر- على نحو ما نعرف في "حديث عيسى بن هشام"، ولكن الناس ينصرفون عنها تدريجًا، ليمكن أن يقال: إنه لا يوجد في عصرنا الحاضر من يتشيع لهذه الصياغة، أو يعني بها عناية لها قيمة في أعماله وآثاره، وربما كانت الصحف من أهم الأسباب، التي أعدت لموت البديع والسجع، فإن كتاب الصحف مضطرون اضطرارًا إلى أن يخاطبوا أوسع مجموعة، وهذا لا يستقيم لهم مع اللغة المقيدة؛ لأن الذي يفهمها قليلون، من أجل ذلك عمد أدباء الصحف إلى هجر هذه اللغة المنمقة، واعتبروها لغة بالية، بل قل: لغة ميتة، لا تصلح لحديث ولا لكتابة، إذ أريد بالكتابة أن يفهما الناس. نحن لا نبعد إذا قلنا: إن هذه الجماعة من أدبائنا المحدثين هي التي قضت نهائيا على السجع، وأزيائه من بديع وغير بديع، فتحت أيديها ثم هذا التحول نهائيا، وأصبح الناس لا يكادون يلتفتون إلى من يفزع إلى أساليب البديع والترصيع، إذ يعتبرونه منفصلًا عنهم، وقلما فكروا فيه أو شعروا به.

<<  <   >  >>