تأخر تدوينه تدوينا عاما. وقد كفل له من ذلك ما يملؤنا إعجابا بعلمائه ورواته، فقد اشترطوا شرواطا كثيرة في حملته، وأقاموا من أجله علما برأسه، يسمى مصطلح الحديث ميزوا فيه بين أنواع صحيحة وضعيفة، كما ألفوا كثيرا في رجاله ورواته، حتى يقفوا على درجة صدقهم، وقد أفردوا لضعيفه كما أفردوا لصحيحه مؤلفات كثيرة على نحو ما صنع ابن حبان وغيره، وكذلك أفردوا مؤلفات لموضوعاته، ومفترياته على نحو ما صنع السيوطي في كتابه "اللآلئ المصنوعة".
وبذلك حافظ المسلمون على حديث الرسول صلوات الله عليه، وإن كانوا قد أجمعوا على أنه في جملته روي بالمعنى ولم يرو باللفظ، بسبب تأخر تدوينه، ولعل ذلك ما جعل علماء الكوفة والبصرة، وبغداد لا يحتجون به في إثبات لغة العرب والاستدلال على القواعد النحوية، واللغوية التي دونوها، فقد تداوله الأعاجم، والمولدون قبل تدوينه تدوينًا عامًّا.
والذي لا شك فيه أنه عليه السلام لم يكن ينطق إلا عن ميراث حكمة، وأنه أوتي جوامع الكلم، وكان يكره الإغراب في اللفظ والتعسف والتكلف، ويكفي في بيان روعة تعبيره وبلاغة كلامه، وتراكيبه ما يقوله الجاحظ في كتابه البيان والتبيين من أنه "لم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد ويسر بالتوفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام ... لم تسقط له كلمة، ولا ذلت به قدم ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلم القصار ... ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج١ إلا بالحق ولا يستعين بالخلابة ... ولم يسمع الناس بكلام قد أعم نفعا، ولا أقصد لفظا ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى ولا أبين في فحوى من كلامه