للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح سهر١، ينظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، موصول كلالهم بكلالهم: كلال الليل بكلال النهار.. حتى إذ رأوا السهام قد فوقت٢، والرماح قد أشرعت والسيوف قد انتضيت، ووعدت الكتيبة بصواعق الموت، وبرقت استخفوا بوعيد الكتيبة لوعد الله، ومضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطلت عليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر طالما بكي صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله".

وواضح أن هذا الوصف يعتمد في جماله على صدق العاطفة وحرارتها، وقوة العقيدة ومتانتها، إذ يمثل صاحبه مدى إيمان الخوارج بمذهبهم، وكيف باعوا الحياة الدنيا بالآخرة، حتى أصبح الاستشهاد أمنيتهم والتهافت على نيران الموت طلبتهم، وهم لذلك يثورون ثورة جامحة، يقدسون فيها عقيدتهم، ويتفانون في سبيلها صادرين في ذلك عن روح تقوى مفرطة. ولعل ذلك ما جعلهم يكثرون من المواعظ الخالصة، وخير من يمثلهم في ذلك قطري بن الفجاءة، وله موعظة طويلة مشهورة، وكلام كثير محفوظ٣، ونسوق قطعة من موعظته ندل بها على مبلغ تجويده وتحبيره، يقول٤:

"أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال وتزينت بالغرور.. مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته


١ أنضاء: مهزولون، أطلاح: مكدودون.
٢ فوقت: جعلت لها الأفواق، وهي موضع الأوتار في السهام.
٣ البيان والتبيين ١/ ٣٤١-٣٤٢.
٤ نفس المصدر ٢/ ١٢٦، وعيون الأخبار ٢/ ٢٥٠، والعقد الفريد ٤/ ١٤١.

<<  <   >  >>