٤- وأدباء رزقوا الشخصية الغلابة، والأدب المتين، وحاكوا النماذج الرفيعة من أدب السلف، فاستحصدت مرتهم، وعظمت ذخريتهم من الأدب الرصين، فمزقوا هذه الحجب الكثيفة، وطرحوها جانبًا، وارتفعوا بالشعر وبالأدب إلى حيث الشمس الساطعة القوية, فتراءت معانيه، وتجلت أخيلته، واهتزت لديباجته المشرقة النفوس، قلدوا القدماء بل عارضوهم، وجروا وإياهم في ميدانٍ واحدٍ, ولكنهم لم يقلدوا الغَثَّ من الآداب, بل عمدو إلى فحول الشعراء ينسجون على منوالهم, ويبارونهم في قصائدهم المشهورة الخالدة، فحلَّقوا معهم في سماواتهم، وأضفوا على الشعر لونًا جديدًا جذابًا, لم يستمتع به منذ أمد طويل.
أجل! لم يكونوا دائمًا في قوة فحول الأدباء والشعراء السابقين، بل قصروا عنهم في كثير من الأوقات، ولكن حسبهم أن سلم شعرهم من هذه العلل والأوصاب التي أزمنت لدى الشعر العربيّ قرونًا، ووصلت به إلى درك الغثاثة والركة والعجمة، وخير مثل لهذا النوع من الأدباء -أستغفر الله- بل باعث الشعر العربيّ في العصر الحديث، وصاحب هذه اليد الطولى على الأدب هو البارودي.
هذا, وقد ظهر في أخريات عصر إسماعيل فجر نهضةٍ جديدةٍ في الأدب، لم تكن مدارس إسماعيل، ولا حركة الإحياء في عهده هي الباعث عليها، ولكن رغبة إسماعيل في أن يرى مصر بين عشيةٍ وضاحها قطعةً من أوربا في مدنيتها وحضارتها، وجعلته يسرف في مال مصر ويبدده في هذه السبيل, غير ناظر إلى الشعب ومصيره. واتخذ الأجانب من حب إسماعيل للحضارة الأوروبية وسيلةً لاستيطان مصر، فجاؤوا زرافاتٍ ووحدانًا، يرتادون هذه الأرض البكر, وينشئون البيوت التجارية والمصارف المالية، ويتقدمون لخدمة الحكومة في جميع مصالحها, ولما استدان إسماعيل، وأثقلته ومصر الديون, عظم نفوذ هؤلاء الأجانب, وشجعتهم حكوماتهم وحمتهم امتيازاتهم، فكان هذا النفوذ المتزايد سببًا في تنبه المصريين إلى الخطر الداهم الذي ينتظر بلادهم.