للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وابتدأ إسماعيل نهضته بعد عودته، مترسمًا خطا جده، وأعاد للجيش مكانته، ووجد البارودي المجال أمامه فسيحًا، فظل يرقى في مناصب الجيش، وفي فرسان الحرس الخاصِّ حتى وصل إلى رتبة "قائمقام" وتحقق له مناه بالاشتراك في معارك جزيرة "كريت" حين ثارت على الدولة, فأسهم إسماعيل بجيشه في إخماد الثورة, وقد فتنت الباردوي مناظر الجزيرة ومناظر المعارك، فسجَّل ذلك كله في شعره، وسمع الناس نغمًا جديدًا في الشعر لم يألفوه منذ عهدٍ طويل، وأخذوا يتطلعون في لفهةٍ وشوقٍ إلى المزيد من هذا النفس العالي، ومن هذا الطراز الجديد في الشعر١.

وتقلب البارودي في مناصب الدولة، وكان ذا حظوةٍ لدى إسماعيل، فاتخذه كاتم سره، وسافر في رحلتين سياسيتين إلى الآستانة في مهمةٍ خاصَّةٍ، ومكث اثنتي عشرة سنة بجوار إسماعيل، يرى نشاطه الجم في إحياء مصر وإنهاضها, ويشاركه في عمله المجيد، وفي سنة ١٨٧٨ أعلنت روسيا الحرب على تركيا، وأرسل إسماعيل جيشًا يعاون الخليفة في حربه مع عدوه، وسافر البارودي مع الجيش، وأبلى في المعارك بلاءً حسنًا، فأُنْعِمَ عليه عليه برتبة "اللواء" وبأوسمة عدة.

وكان في ميدان القتال، والمناظر الخلابة، والعالم الذي رآه ما ألهب شاعريته، فوصف المعارك والناس والمناظر بشعر أخَّاذٍ بلغ الذورة في الوصف، وأخذ يهتف باسم مصر، ويحنُّ إلى الأهل والوطن، فانبعث منه الشعر قويًّا مليئًا بالحياة.

مولاي قد طال مرير النوى ... فكل يوم مرّ بي ألف عامٍ

يقتبل الصبح ويمضي الدجى ... وينقضي النور ويأتي الظلام

ولا كتاب من حبيب أتى ... ولا أخو صدق يرد السلام

من خلفنا البحر وتلقاءنا ... سواد جيش مكفهر لهام

ويقول في قصيدة أخرى:

هو البين حتى لا سلام ولا رد ... ولا نظرةً يقضي بها حقه الوجد


١ سنتكلم عن شعر البارودي فيما بعد بالتفصيل إن شاء الله.
٢ الخطاب للاديب العالم الشيخ حسين المرصفي, وإليه أرسل هذه القصيدة، والتي تليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>