ينقل إليك، فهو المصوِّرُ لكل فنٍّ، والمتكلم بكل لغة، المحدِّث بكل لسانٍ، المؤرِّخُ لكل زمان، الشاعر الناثر، المغني العازف، لا تعجزه العبارة، ولا تجهده الإدارة، ولا يضيره اختلاف شكل، ولا تباين أصل".
ومن أمثلة النثر الاجتماعي غير ما تقدَّم عرضه, قول قاسم أمين في كتابه عن "المرأة الجديدة":
"إن كل تغيير يعرض على الأنظار في صورة مشروع يلتمس قبوله، ولم يكن بدأ الناس فيه من قبل، هو في الحقيقة فكر سبق أوانه وقت عرضه، ولهذا لا يفهمه ولا يقدِّره حق قدره إلّا العدد القليل، ممن يمتد نظرهم إلى ما يكنه المستقبل من الحوداث, انظر إلى حالة مصر، فقد عاشت الأمة المصرية أجيالًا في الاستعباد السياسيّ، فكانت النتيجة انحطاطًا عامًّا في جميع مظاهر حياتها: انحطاطًا في العقول، وانحطاطًات في الأخلاق، وانحطاطًا في الأعمال، وما زالت تهبط من درجة إلى أسفل منها، حتى انتهى بها الحال إلى أن تكون جسمًا ضعيفًا، عليلًا ساكنًا يعيش عيشة النبات أكثر من عيشة الحيوان، فلما تخلصت من الاستعباد، رأت نفسها أول الأمر في حيرة لا تدري معها ما تصنع بحريتها الجديدة، وكان الكل لا يفهم لهذه الكلمة معنًى, ولا يقدر لها قيمةً, وكان الناس يستخفون ويهزءون بالحرية, بل ويتألمون منها، وينسبون إليها اختلال عيشهم، وعلل نفوسهم، فكم من مرة سمعنا بآذاننا أن سبب شقاء مصر هو تمتعها بالحرية والمساواة, ثم اعتاد القوم شيئًا فشيئًا على الحرية، وبدءوا يشعرون بأن اختلال عيشهم لا يمكن أن يكون ناتجًا عنها, بل له أسباب أخرى, ثم تعلق بنفوس الكثير منا حب الحرية, حتى صاروا لا يفهمون للوجود معنًى بدونها، ولنا الأمل في أن أولادنا الذين يشبون على حب الحرية يجنون ثمراتها النفيسة التي أهمها تهيئة نفوسهم للعمل، وعند ذلك يعرفون جيدًا أن الحرية هي أساس كل عمران، وقد دلت التجربة على أن الحرية هي منبع الخير للإنسان، وأصل تربيته وأساس كماله الأدبيّ، وأن استقلال إرادة الإنسان كانت أهم عامل في نهوض الرجال، فلا يمكن إلّا مثل هذا الأثر في نفوس النساء".