ويقول في إحدى هذه المقالات:"إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوءها من بلاد الأندلس على ما جاورها, وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها عدة قرون فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، واليوم يرعى أهل أوربا ما نبت في أرضهم بعدما سقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم, في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة".
هذا وقد كانت للشيخ في رسائله الإخوانيه أسلوب يحتفي فيه، بعبارته، وتصوير مشاعره تصويرًا فنيًّا يدل على ذوق أدبي، وتمكن من اللغة والأدب، وعلى أنه ذو موهبة شعرية تمده بالخيالات الطريفة والصور البيانية الجميلة، وقد ذكرنا فيما سبق خصائص هذا الأسلوب, وضربنا عليه أمثلةً من كتابة أديب إسحق، وعبد الله نديم، وعبد الله فكري. وهاك مثلًا من رسالة للشيخ محمد عبده إلى أحد إخوانه وهو في سجن القاهرة بعد أن اتهم بالاشتراك في حوادث الثورة العرابية، وذلك في ٩ من المحرم سنة ١٣٢٠, الموافق ٢٠ من نوفمبر سنة ١٨٨١م.
عزيزي:
تلقدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم
هذه حالتي: اشتد ظلام الفتن حتى تجسم بل تحجر، فأخذت صخوره فمن مركز الأرض إلى المحيط الأعلى، واعترضت ما بين المشرق والمغرب, وامتد إلى القطبين، فاستحجرت في طباع الناس! إذا تغلبت طبيعتها على المواد الحيوانية أو الإنسانية، فأصبحت قلوب الثقلين كالحجارة أو أشد قسوة, فتبارك الله أقدر الخالقين.
رأيت نفسي اليوم في مهمه لا يأتي البصر على أطرافه، في ليلة داجية، غطى فيها وجه المساء بغمام سوء، فتكاثف ركامًا؛ لا أرى إنسانًا، ولا أسمع ناطقًا، ولا أتوهم مجيبًا.