أسمع ذائابًا تعوي، وسباعًا تزأر، وكلابًا تنبح، كلها يطلب فريسةً واحدةً وهي ذات الكاتب، والتف على رجلي تنينان عظيمان، وقد خويت بطون الكل، وتحكم فيها سلطان الجوع، ومن كان هذه حاله فهو لا ريب من الهالكين.
تقطع حبل الأمل، وانفصمت عروة الرجاء، وانحلت الثقة بالأولياء, وضل الاعتقاد بالإصغاء، وبطل القول بإجابة الدعاء، وانفطر من صدمة الباطل كبد السماء، وحقت على أهل الأرض لعنة الله والملائكة والأنبياء والناس أجمعين.
سقطت الهمم، وخربت الذمم, وغاض ماء الوفاء، وطمست معالم الحق، ومزقت الشرائع، وبدلت القوانين، ولم يبق إلّا هوًى يتحكم, وشهوات تقضي, وغيظ يحتدم, وخشونة تنفذ، تلك سنة الغدر، والله لا يهدي كيد الخائنين.
ذهب ذوو السلطة في بحور الحوادث الماضية, ينوسون لطب أصداف من الشبه, ومقذوفات من التهم, وسواقط من اللم, ليموهوها بمياه السفسطة, ويغشوها بأغضية من معادن القوة؛ ليبرزوها في معرض السطوة, ويغشوا بها أعين الناظرين، لا يطلبون ذلك لغامض يبينونه، أو لحقٍّ خفيٍّ فيظهرونه، أو خرق بدا فيرتقونه، أو نظام فسد فيصلحونه، كلّا كلّا بل ليثبتوا أنهم في حبس من حبسوه غير مخطئين"١.
ولعلك تلمس في تلك الشكوى المرة من الخيانة والغدر وعدم الوفاء، وتحكم الأهواء, وهي التي سمعتها من قبل على لسان البارودي بعد أن غدر به أصحابه، وأخفقت الثورة, وزج به في غياهب السجن، ولقد كان الشيخ في نثره شاعرًا جياش العاطفة, بارع التصوير لحاله ولآلامه ولمرارة السجن.
هذا ولم يعن محمد عبده بأسلوبه فحسب, بل حاول أن يحمل الكُتَّابَ على العناية بكتاباتهم, وله في هذا المضمار، وفي النهوض بالكتابة آثار منها:
١- مكَّنَ له منصبه في "الوقائع المصرية" من الإشراف على الجرائد والمجلات, ومراجعة ما يحرره كتبة الدواوين في شئون الحكومة، وقد مر بك كيف أنذر
١ تاريخ الأستاذ الإمام ج٢ ص٥٢١-٥٢٢ طبعة أولى سنة ١٣٧٤ بالمنار.