به أحد التجار, فأغراه على أن يدفع به إلى المدرسة، ولما أتمَّ تعليمه بمصر أُرْسِلَ إلى أوربا, وعاد إلى بلاده متنكرًا لأهله، مستقبحًا عادات قومه، مهجنًا طريقتهم في التحية، ومستفهمًا بقحة عن اسم البصل الذي أكله؛ لأنه نسي الاسم العربيّ، ولم يعد يتذكر إلّا الاسم الفرنسيّ١, ولما شكى أبوه إلى أحد النابهين قال له:"ولدك لم يتهذب صغيرًا, ولا تعلم حقوق وطنه، ولا عرف حقَّ لغته، ولا قدر شرف أمته، ولا ثمرة الحرص على عوائد أهله, ولا مزية الوطنية، فهو وإن كان تعلم علومًا إلّا أنها لا تفيد وطنه".
وهذا داء استشرى في مصر بعد النديم، وحاكى كثير ممن درسوا في بلاد الغرب أوربا في كل شيء, حتى هجنت عاداتنا وتقاليدنا، وفقد شبابنا كثير من مقومات الوطنية الصادقة، وإن كانت هذه الفتنة قد ابتدأت تخف وتتنبه الأمة إلى التمسك بلغتها وعاداتها ومزاياها، وتعتز بها.
ويلي ذلك قصة جماعة من الموسرين اجتمعوا في بيت أحدهم، ودخل عليهم فوجدهم مبهوتين صامتين لا يتكلمون ولا يتحركون، ولا يرفعون أبصارهم, فظنَّ أول الأمر أن ربَّ الدار قد رزئ بخطب فادح، وقد أتت هذه الجماعة لتواسيه، وعقد الحزن ألستنهم، وران على قلوبهم, فتركهم واجمين، ولكن خاب ظنه هذا، فسأل: هل ثمة معضلة عويصة عرضت لكم وأنتم تبحثون تقدم أوربا في الصناعات، وانتشار تجارتها, وكيف تصل مصر إلى هذه المنزلة، فأجابوا بالنفي، فقال: ربما تفكرون فيما يزيد ثروتكم, ويعود بالنفع والخير عليكم وعلى أمتكم, فقال رب الدار: هذا أمر لا يهمنا, فإن البلاد إذا تقدمت أو تأخرت لا تفيدنا شيئًا أحسن مما نحن فيه، وأما عن ثروتنا وزيادتها فعندنا من الثروة الكفاية؛ وهكذا صار يسألهم وهو في حيرةٍ من أمرهم حتى اكتشف أنهم إنما اجتمعوا لتعاطي "الكيف"، والمنبهات وغير ذلك، وعللوا لاجتماعهم هذا بأن:"الكيف" لا يفرح إلّا إذا تعاطاه الإنسان في مجالس، ويختم النديم هذه القصة التي سماها
١ وقد ساق النديم هذه القصة بطريقة الحوار بين هذا الشاب المغرور الذي أسماه "زعيط" وبين والده، وذكر فيها كثيرًا من الكلمات العامية حتى يعطي اللون الخاص الذي يريده، وكان يذكر بطريقة تهكمية لإذعة هذه الكلمات الفرنسية التي يلوكها هذا الدعيّ مثل كلمة "بون أريفي" عمد التنبيه و"أنيون" يريد البصل, وهكذا.