ولقد رأيت من خطبة أنها كانت من وحي العاطفة المتأججة في حنايا صدره، وأنها كانت هادئةً في قوةٍ؛ إذ لم يكن عصبيًّا ولا حادَّ المزاج، ولا مهيجًا، على النقيض من عبد الله نديم, ولم يكن متمهلًا ولا جامدًا شأن الذي يقرأ درسًا من الدروس, بل متحمسًا في رزانة ووقار، وبدا في كلامه الإيمان بالحق الصريح والإثارات العميقة المتأصلة.
وكان كلامه مؤثرًا في نفوس السامعين, كما أقرَّ ذلك كل من سمعه, لا لخلابةٍ فيه وتزويق، ولكن لأنه صادر عن إيمانٍ وعاطفةٍ جياشة؛ ولأنه ينبعث من نفسٍ طيبةٍ صهرتها الأحداث، وأحست بما تحسُّ به ملايين القلوب على ضفاف النيل منذ زمن قديم، فوجدت كلماته صدًى عميقًا في نفوس مواطنيه؛ لأنها عبَّرت في وضوح عما يختلج في كل صدر، ويعتمل في كل قلب.
ولم يكن صاحب صنعة في خطبه أو كتاباته، فلم يتكلف أيّ لونٍ من ألوان البديع، ولم يكن يقصد غير الوضوح، ومع هذا تحس أن فيه صفة الخطيب الجيد، فجمله قصيرة الفواصل, ترتاح عندها النفس, وتستوعبها الآذان، ولها جرس موسيقي خلاب، وأنها تتدفق في يسر وقوة، ومشحونة بالعاطفة والصدق، وقلما اقتبس من الشعر والحكم والأمثال، وإذا أتى بشيء منها كان موفقًا كل التوفيق، ولكنه كان يكثر من الاستشهاد بآي الله الحكيم وبالحديث الشريف، وقضايا الدين وحوادث التاريخ الإسلاميّ، وبخاصةٍ زمن الحرب لضرورة الإقناع والتأثير.
وكانت ألفاظه سليمةً ليس فيها من العاميّ المبتذل إلّا القليل، وإذا راعينا ظروفه وظروف عصره غفرناها له، ولم يك يعرف أصول المنطق والجدل، ويأتي بالمقدمات الطويلة، كما كان يفعل جمال الدين ومحمد عبده، وذلك لأنه لم يكن فيلسوفًا، ولا متعلمًا عميق الغور، وإنما كان زعيمًا شعبيًّا يطالب بحق بسيط صريح، وهو الحرية والعدالة والمساواة.
وقد غلب عليه الأسلوب الخطابيّ حتى في كتاباته، وكان واقعيًّا في تعبيراته، فلم يكن يعمد إلى الخيال الأدبيّ ولا إلى العبارة المحلاة، ولم يكن رجل أحلام وأوهام، بل رجل واقع وتجارب، وهو رجل مثل عليا، كما فصلنا ذلك عند الكلام على مبادئه وشخصيته.