ولعمري إن هذه النفس التي تحترق وطنية وألما لما نكبت به مصر في بنيها كانت جديرة بأن تتبوأ مكانتها اللائقة بها في عالم الأدب، ولقد حظي حافظ بالشهرة في عالم الوطنيات، مع أنه من عرفت، ولم يقف لحرّ الوطنية، وما يلاقيه الوطنيون في سبيل مبادئهم إلا أمدًا يسيرًا، وهو في شعره الوطني لا يشعرك بتلك الحرارة التي يبعثها في نفسك شعر أحمد محرم. ولكن عيب أحمد محرم، وعيب الكاشف معه أنهما آثرا العزلة بالريف حين فسدت الحياة في القاهرة، واختلف الناس فيما بينهم على المبادئ السامية، وكان في محرم زهد وعفة، وإيمان قوي، فلم يتملق رئيسًا، أو يعرف في الحق لينًا أو مواربة وكان حافظ رجل دنيا كثير الاختلاط بالناس. فالتمس له أصدقاؤه المعاذير حين قصر، وأغدقوا عليه عاطر الثناء حين وفق.
أما أحمد محرم فقد بقي حتى اليوم محرومًا القلم القوي الذي يعرض دوره بين الناس، ويعرف به قومه، وهو الذي أثر الفقر، والوحدة، والحرمان في سبيل مبدئه، وكان شاعرًا صاحب رسالة، وكان من أقوى الشعراء ديباجة وأنصعهم بيانًا، كان عيب أحمد محرم أنه يمثل الفريق الجاد من الأمة، والذي يشعر بآلامها المبرحة وأدوائها المستعصية، وكان صاحب مثل أعلى في أمة هازلة تطرب للعبث، ويفتنها زبرج الحضارة الغربية ليفتننا عن أهدافنا القويمة. كان شاعر مصر سياسيًّا واجتماعيًّا؛ وكان شاعر العروبة والإسلام، متعدد النواحي الأدبية؛ ومع ذلك كل عاثر الجد في حياته؛ لأنه لم يتملق العظماء فيمدحهم بالباطل، ويرثيهم إذا ماتوا، بل كان شاعرًا صادق الشعور في كل ما ينطق به، لا نظامًا يقول في المناسبات، فلم يجد من يدفعه إلى عالم الصدارة كما وجد سواه من الشعراء، ولنا إليه عودة إن شاء الله.
أما صديقه أحمد الكاشف فقد وقف نفسه على الشعر السياسي، وكان دون محرم اتساع أغراضه، إذ وقف على لون واحد من الشعر. ويمدح الترك حين كان مدحهم دينًا أو سياسية، ويشن الغارة الشعواء على الإنجليز على عهد كرومر، وغورست، وكتشنر ويمدح عباسًا وحسينًا، ويؤيد الثورة بكل قوة حين