ولا يحس به من ورثوا المال الطائل وجاءهم هينًا لينًا؛ فبعثوه في يسر وسخاء غير آسفين ولا نادمين، ولا يحسون بغلاء، ولا تقف دون رغباتهم عقبات:
أيها المصلحون ضاق بنا العيش ... ولم تحسنوا عليه القياما
عزت السلعة الذليلة حتى ... بات مسح الحذاء خطبًا جسامًا
وغدا القوت في يد الناس كالياقوت ... حتى نوى الفقير الصياما
ويخال الرغيف في العيد بدرًا ... ويظن اللحوم لحمًا حرامًا
على أن حافظًا بعد ثورة سنة ١٩١٩ انصرف عن الشعر الاجتماعي إلا القليل كقوله في حفلة مدرسة للبنات، أو جمعية الطفل سنة ١٩٢٨ قصيدة واحدة؛ صمت حافظ عن السياسة، وصمت عن وصف الطبيعة المصرية، وصمت حتى عن الشعر الاجتماعي الذي ظهرت فيه موهبته، والذي لا حرج عليه فيه أنه قاله. ولست أدري لصدوف حافظ عن الشعر الجيد الكريم الغرض في هذه الحقبة تعليلًا، إلا أن طاقة حافظ الشعرية قد نفدت وقريحته قد نضبت، وأنه قال ما قال سابقًا في فورة النفس، ثم ران عليها اليأس والخوف، وانصرفت لرثاء العظماء، وإلى إغفاءة طويلة لا تتنبه منها إلا في فترات متباعدة فتحس بها حولها. فيخرج قصيدة اجتماعية، أو مقطوعة سياسية يحاول إخفاءها جهده حتى لا يضار بشيء مع أنه لو نشرها ما أصابه ضر؛ إذ ليس فيها ما يخشى منه أشد الناس جبنًا. ولكنه على كل كان قبل الحرب العالمية الأولى، وفي خلالها شديد العناية بمصر وشئون مصر.
وليس كذلك شوقي، فهو قبل الحرب الأولى، كان حبيسًا في قفص من ذهب، مقيدًا بقيود القصر، وغل الحاشية، وأغلب الظن أنه لم يكن يدري عن حالة البؤس والفاقة التي يعانيها سواد الشعب شيئًا، وإذا درى فقلما يحس الآلم أو يتذكرها، وليس له بها عهد، أو إدراك، ولا نسمع له في هذه الحقبة إلا ثلاث قصائد في الهلال الأحمر والصليب الأحمر، أولاها مواجهة إلى توفيق باشا وزوجته، وهي التي مطلعها: