ثمة ما يغري الطالب بالتمسك بدينه، لا قدوة حسنة يراها، ولا تعليمًا يغذي مشاعره، ولا ضرورة تحفزه على دراسته.
إن أخوف ما كان يخافه المستعمرون هو قوة الشعور الديني الإسلامي في مصر؛ لأن الإسلام دين يدعو إلى العزة والكرامة، ويأبى على المسلم أن يخضع لسواه، وأن يذل، وفي يقظة الشعور الديني استرجاع لماضي هذه الأمة المجيدة، وتذكر لما كانت عليه من عظمة وعلم وقوة، وتحسر على ما آلت إليه من استعباد وخزي، ولذلك ترى هؤلاء المستعمرين الذين جابوا هذه البلاد مرات ومرات، وطمعوا فيها منذ القرن العاشر والحادي عشر إبان الحروب الصليبية، ولم يرد طوفانهم إلا قوة الإسلام وإخوته، يعملون جهودهم على إضعاف هذه الروح في نفوس شباب البلاد التي يحتلونها: لهذه الأسباب، ولأنهم يخشون كل الخشية أن يعم هذا الشعور بلدان الإسلام التي سعوا إلى احتلالها، وإضعاف قوتها، فتتحد فيما بينها، وتهب قوية فتية تطردهم من ديارهم شر طردة، وتستعيد مجدها السالف، وهي غنية بجيرانها، وتستطيع بما فيها من قوى مادية ومعنوية أن تغير مصير العالم إن أرادت. فظن المستعمرون لكل هذا، فأغرونا بزبرج الحضارة الأوربية، وأكثروا من مفسادها فيما بيننا، بل عملوا على استيراد هذه المفاسد حتى تخف وطأة الدين والأخلاق على نفوسنا، ونستمرئ اللهو والعبث، وننسى ذلك الماضي الرائع، والجهاد الشاق، والصراع الطويل المراد بيننا وبينهم.
وقد ابتدأت هذه الحركة الدينية في الظهور منذ عهد جمال الدين الأفغاني على نحو ما فصلناه في الجزء الأول، وسار محمد عبده على نهجه، ودعا الشيخ رشيد رضا وحزبه إلى تنقية اليد من الخرافات والخزعبلات، والرجوع به إلى بساطته الأولى، وإلى تحبيبه للنفوس التي جهلته وجاء على أثره جماعة أرادوا أن يوفقوا بين الدين والحضارة الحديثة، وساروا في أول أمرهم برفق وحذر، وهم جماعة حزب الأمة وعلى رأسهم لطفي السيد، ولكنهم كانوا يخشون الطفرة فيما يرمون إليه من الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية؛ لأن الأمة في ذلك الوقت لم تكن تتقبل هذا الأمر بيسر، ولهذا تجد لطفي السيد مع نزعته إلى الحضارة الأوربية