للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس من الضروري أن تكون الحقائق جديدة مبتكرة، بل إن في استطاعة الشاعر الملهم المقتدر أن يخلع من فيض عبقريته على الحقائق القديمة المألوفة التي تتخطاها الأذهان، ولا تفطن لها بساطتها وتفاهتها فيجعلها متألفة قوية، وتدب فيها الحياة؛ لمقدرته وبراعته في انتقاء الألفاظ المعبرة وهذا ما جعل شاعرًا كبيرًا مثل وردسورث -الذي فتن به بعض شعرائنا- يحتل تلك المكانة الممتازة في الأدب الإنجليزي وقد قال "دي كوينسي" في شعره: "إن الأديب الذي سيخلد على الأيام هو الذي يحير الناس بحقائق منتزعة من ينابيع جديدة كل الجدة -حقائق لم تر وجه الشمس ولذا فهي غامضة لا تدرك- بل هو الذي يبعث وجوهًا قديمة للحقيقة طال إغفاؤها في الذهن إلى انتباه مشع١". إن العبرة بالنظرة التي يرى بها الشاعر الحقيقة والعاطفة التي يتقبلها بها، ويسبغها عليها٢.

قد يرى الشاعر ما يرى الناس، ويحس ما يحسون، ولكنه يراه أوضح مما يرون، ويحس به إحساسًا أعمق مما يحسون، ويتصروه في مناظر جديدة لم تخطر لهم ببال، ثم يعبر عنه بطريقته هو تعبيرًا قويًّا يجعله في نظر الناس شيئًا جديدًا. وهذا هو سر العبقرية.

إن العناية بالمعاني وتنوعها وتجددها تجعل الشعر مفيدًا، غير تافه، ولكن الإسراف في ذلك يفسد الشعر لأنه يحمله ما لا يحتمل، ويجعله أقرب إلى فنون العلوم؛ لكثرة ما يحتوي عليه من حقائق جافة، منه إلى الشعر الذي يهز العاطفة، ولما يحتاج المرء في فهمه إلى كد الذهن، وإنعام النظر، والشعر إذا زاد فيه الفكر والعلم ذهب رواؤه، وقل بهاؤه، ولم تعد له تلك الميزة التي تفصل بينه وبين النثر؛ لأن الشعر لغة الانفعال، إن الشعر في الأصل معان يريدها الشاعر، وهذه المعاني ليست إلا أفكارًا عامة يشترك في معرفتها كثير من الناس. وإنما تصير هذه المعاني شعرًا حين يعرضها الشاعر في معرض من فنه وخياله وأدائه فيجدد هذه المعاني تجديدًا ينقلها من المعرفة إلى التأثر بالمعرفة ومن إدراك المعنى


١ راجع الفقرة التاسعة من De Qinncey's on Wordsworth's Poetry
٢فنون الأدب تأليف هـ -ب- تشارلتن وتعريب زكي نجيب محمود.

<<  <  ج: ص:  >  >>