للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن الملاحظ أن الشعراء الذين حفلوا بالمعاني. وجعلوا همهم البحث عنها، والجري وراءها، واصطيادها أينما كانت كانوا أحد رجلين: إما شاعر معقد، مغرب؛ لأنه انتزع المعاني انتزاعًا من مواطن غير معهودة، وأتى بشيء لم يألفه الذهن، فهو غامض على السامع، وقد يكون غامضًا على الشاعر لأنه لم يدركه تمام الإدراك، أو لأنه لم يستطع التعبير عنه بوضوح لعدم جلائه في ذهنه، مثل أبي تمام، وأبي العلاء، والمتنبي أحيانًا، وإما شاعر ركيك العبارة، لا يعني بأسلوبه، إذ جعل همه الأولى إبراز المعنى كاملًا بأي أسلوب وأي عبارة تهيأت. وأدت ما أراد، وهذا هو الغالب على شعراء المعاني في عصرنا، فكثيرًا ما ترى المعنى جميلًا بديعًا، ولكن العبارة التي أدى بها تذهب بجماله، وتضعفه فلا تستسيغه الأذن ولا يتقبله العقل وقد غاب عن هؤلاء أن الروائع في الأدب العربي والأدب الغربي لم تخلد لما فيها من معانٍ فحسب، ولكن خلدها جمال الأسلوب ولولا ذلك ما رواها الرواة وعنى بها المتأدبون؛ فالأدب فن، وكل فن فيه ناحيته؛ ناحية الموهبة الطبيعية من ذوق مرهف يجتذبه الجمال وقدرة فيه ناحيته؛ ناحية الموهبة الطبيعية من ذوق مرهف يجتذبه الجمال وقدرة على التخير والانتقاء، وناحية الصنعة، فليس يكفي في العبارة أن تنقل إلينا المعنى؛ لأن المراد في الأدب ليس المعرفة وتقرير الحقائق، وإنما نقلها مشفوعة بلذة، ولا يتأتى هذا إلا إذا كانت العبارة مصوغة صياغة فنية خاصة.

ثم إن التعبير الجميل هو الذي يميز كلام الأديب من كلام الناس "إن هؤلاء الذين يزدرون الجمال اللفظي مصابون بشذوذ في الفكر أو سقم في الذوق أو عجز عن الكمال، وإلا فكيف نعلل إنكارهم تجميل الأسلوب وهم لا يفتأون على تنميق الكلام ويدعون أن الغرض منه الفهم والعلم، ولا يثورون على تزيين الطعام والتأنق في الملبس، وتزويق المسكن، والغرض منها الغذاء والوقاء؟ إذا كان أحدهم لا يجب أن يلبس الثوب المرقع ولا أن يسكن الكوخ النابي، ولا أن يسلك الطريق الوعر، ولا أن يركب المركب الخشن، فلماذا يكره أن يسمع الكلمات العذبة، والفقر المنسقة، والجمل الموزونة والأصوات المؤتلفة١.


١ أحمد الزيات: الدفاع عن البلاغة.

<<  <  ج: ص:  >  >>