وأحيانًا يضيق، وأخرى يتسع، ألا ترى معي أن الشكوى من النوى وتلبية الشوق إذا دعا عبارات لاكتها ألسنة القدماء حتى ملها الأسماع أولا ترى أن مسألة الخشية من هبوب النسيم على المحبوبة ولو هب من جانب الروض فيها مبالغة سخيفة ثم هو معنى قديم وحسبي أن أذكر قول الشاعر:
خطرات النسيم تجرح خديه ... ولمس الحرير يدمي بنانه
وقد عارض صبري قصيدة الحصري القيرواني١ التي مطلعها:
يا ليلُ الصبُّ متى غدُه ... أقيامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ
فقال في قصيدته المشهورة:
أقريب من دنف غده ... فالليل تمرد أسوده
والتفت تحت عجاجته ... بيض في الحي تؤيده
وهي قصيدة في الغزل، ولكن فكرة المغارضة توحي بأنه لم يقلها استجابة لانفعال خاص، أو فيضًا لعاطفة ملتهبة، وإنما قالها ليدل على أنه يستطيع أن يجيد كما أجاد القيرواني ولكن هيهات! فنظرة عابرة إلى القصيدتين تريك أن صبري لم يستطع الفكاك من معاني قصيدة القيرواني وصورها، وأنها غلبته على أمره فرددها، لا! بل كان مضطربًا شأن من وقع في شباك متينة يحاول الخلاص منها فلا يتأتى له، بل تأتت صورة ممسوخة. انظر إلى هذا الاضطراب في قوله:
كما صغت التبر له شركًا ... وقضيت الليل أنضده
وأشاور شوقي بلأدبي ... هل أقصر أم أتصيده
فهل تجد معنى للمشاورة بعد أن مد الشرك فعلًا، ونصب الحبائل لصيده، ثم ألا يذكرك هذا الشرك المصنوع من الذهب بشرك ابن الوردي حيث يقول:
١ القيرواني هو أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري المقري الصرير المصر القيرواني الشاعر المشهور، وفد على جزيرة الأندلس في منتصف المائة الخامسة وتوفي بطنجة سنة ٤٨٨ هـ، وهو صاحب زهر الأدب، وقد عارض قصيدته كثيرون في القديم والحديث منهم في عصرنا شوقي، وولي الدين يكن ونسيب أرسلان وصبري وغيرهم.