وكتب الرحلات، على ما قد يتخللها من نقائص وهفوات، وعلى ما قد يشوبها أحيانا من مبالغات وأخذ الأمور بشكلها السطحي الظاهر؛ لا تقل أهمية لطلاب التأريخ عن كثير من الوثائق المحفورة على أحجار الأوابد وجدران القصور والمعابد الأثرية التي يعمل النقابون على اكتناه أسرارها وحل رموزها وطلاسمها، واجتلاء خباياها وما تعقّد من معضلاتها. لأن بعض هذه الكتابات قد تكون بعيدة عن كبد الحقيقة أو قد تكون موحى بها من ملك متنفذ أو أمير متحكم أراد أن يشيد بعظمته ويقص على المتأخرين أحاديث فتوحاته وغزواته، وأقاصيص سؤدده وسلطانه؛ بعبارات كلها أو جلها إغراق وإسفاف في التصوير. والمؤرخ إذا أخذ مثل هذه الكتابات على علاتها من غير تمحيص وروية وتدقيق؛ شذ عن جادة الصواب وحاد، غير قاصد، عن محجة الحقيقة التي يجدّ في طلبها.
أما الجوّابون*، وأكثرهم لا يمت إلى ذوي السلطان بصلة، فكان شأنهم عند تسجيل مشاهداتهم غير ذلك. فهم لم يركبوا الأهوال ويتجشموا مشاق السفر إلى الأقطار السحيقة، في عصور تباعدت الشقة بين بلدانها ووعرت المسالك وعسرت طرق المواصلات؛ لنظم قصائد المديح ونسج عبارات الثناء لأرباب القصور وأصحاب التيجان.
إنما كانوا يعنون بالدرجة الأولى، في دراسة أحوال البلدان التي يجوبونها ومعرفة سهلها ووعرها وجبالها وحزونها وأوديتها وأنهارها وخيراتها وغلتها والوقوف على محاسنها ومساوئها وتقدمها أو